تَنغَرِزُ أنيابُِ الغُربةِ في قَلبي ، كُلما اقتربُتُ خِطوةً ، منْ مَوعدِ مُغادَرتي لعَمَّانْ .
عَمَّان .
هَذِهُ المَدينَةُ التي أُحِبُهاْ ، كما أحبُ دمشقَ ،
و أحفظُ كُلَّ طُرُقَاِتها ، ومقاهيها ،وَحُفَرِها .
وأعرِفُ نصفَ سُكانِها. ولي فِيها مخزونٌ هائلٌ من ، الدَموع والضَحكِات .والقُبل والذكريات .
أتجهُ إلى مَقَرِ السِفارَةِ الألمانية في منطقةِ عَبدَونْ بين شارعِ المتُنبي ، وشارِع أبو فراس الحَمدانيْ.
هنالِكَ حَيثُ ضَربواْ لي مَوعِداً مُسبَقاً لإستكمالِ أوراقِ هجرتي إلى برلين ،
في الباصْ ،
أجلسُ في الكُرسيْ الأولْ بجانبِ السَائِقِ،
مِماْ يُتيحُ لي نظرةً أوسَعَ للطريق.
أتنهدُ مثل رجلٍ أزاح لتوهِ ثقل نصف هذا العالم عن صدره ..
ثم أُسند رأسي على الزجاج الجانبي للباص ،
وأُحدق في الاشجار التي تبدو للوهلةِ الأولى ،
وكأنها تركضُ على جانبي الطريق ،
بينما أقف أنا في مكاني .
أشردُ في خيالاتي صوب دمشق ،
المدينة التي قضيت فيها عقدين كاملين من رحلة هذا العمر .
أستذكرُ بيت الطفولة وذكرياته،
أصدقاء الصبا الذين سرقتهم الحرب أو المنافي .
وتمرُ في مخيلتي صور الأزقة الضيقة في دمشق القديمة ،
والياسمينة البيضاء ، المقابلة لمقهى
( بيت جدي) في باب توما..
استذكر الحب الأول ،
وأول مرةٍ أُمررُ على شفاهي كلمة أحبك ،
القُبلةَ الأولى ونكهةَ القرمزِ من الفتاة الشقراء التي قبلتها في المصعد .
أضغط دون وعيٍ على أظفر السبابةِ في يدي ، حتى ينكسر ، رغم ذلك لا أشعرُ بأي ألم ،
ولا يَلفِتُ نظري مشهد الدماء التي تلون قميصي الأبيض ،
من أعلى يبدو المشهد أقربَ للوحةٍ بيضاء لطختها يدٌ عابثة بلون أحمر ..،
من الأمام ، من المرأةِ التي تقابلني .
يبدو المشهد أقرب لرجلٍ مطعونٍ بسكاكين الذكريات.
أُمسِكُ في يَديْ كتابَ شعرٍ ، لراينر ماريا ريلكه.
(مراثي دونيو ، ترجمة فؤاد رفقة )
شَاعِريْ المُفَضَلْ ، الذي خذلتهُ بلادُهُ ألمانياْ البوهيميةْ، ، وإحتضنتهُ كلاسيكياتُ باريس،
الشاعرُ الذي يُشبِهُنيْ، لكن بفارقٍ بسيط جداً ،
ريلكه قتلتهُ وردةٌ ،
وأنا نجوتُ من حَربٍ كاملةٍ ، ومئاتِ الهزائمِ والسقطاتْ ..
أقرأ بضع صفحاتٍ من هذا الديوان .
ثم أُعيد الكرةَ، و أُسندُ رأسي إلى زجاجِ النافذةِ ، فتَنتابُني رغبةٌ عارمةٌ في الإستسلام و البُكاءْ .
يا الله .
كَمْ مِنْ غُصةٍ وحُرقةٍ ..
كم من شارعٍ و مدينةٍ ..
كم من صديقٍ وحبيبٍ ...
علينا أن نُكَدِسَّ في قُلوبنا ..
كم من الأظافر المكسورة سنهدر ..
كم من بقعِ الدماء سنسكب على ابداننا
حتى نستقر .
كَمْ، علينا أن نَغتَربِ في هذهِ الدُنياْ ،
ح
تىْ نتوقفَ عن البُكاءْ يا الله ؟!