جيل الثمانينات الشعري في العراق
كرسي بلا زمن
شهادة من الداخل
... فقصيدة النثر شراب لا وعاء له ولكن مهلا .. لندافع قليلا عن الشكل الخفي او الوهمي لقصيدة النثر ان الخيط الشعري الخفي داخل قصيدة النثر هو شكلها أي هو فنها المتكون من سراب الكلمات - كما يقول ميلارميه - وبريقها .. فلا تبحث عن شكل لقصيدة النثر بل ابحث عن الشعر فيها ففي الشعر يكمن او يختفي شكلها انها كالماء تاخذ شكل الاناء الذي توضع فيه وهي بهذا الوصف خسرت شيئا من جماليات القصيدة المزمنة كالغنائية التي يتيحها غالبا الايقاع التفعيلي كما خسرت وقع الخطى الموسيقية ضمن المارش الشعري الذي يحققه السير في جوقة شعرية .. لا باس ان همها الانساني والدلالي وحتى الفني وهذا هو الاهم جعلها مستعدة لهذه الخسرانات الشكلية على اهميتها .. واستعدادها هذا لمواجهة رياح الشعر دون دروع شكلية هو الذي جعل منها قوة طاردة .. انها قدرتها على الركض في عراء الاشكال و ليس لديها سوى كلمات ذات قوة كامنة تمكن اللغة من ان تلد لغة اخرى ...
لقد ترسبت الحرب في اعماق الذات والقصيدة والزمن كمعطى دلالي يبحث عن شكله الفني الجديد .. عن حبل متين يحمل دلاء الشعر خارج البئر .. بئر في صحراء الزمن .. هذا الترسب النفسي والدلالي والفني اغراني وجذبني ان اكتب عن كثير من التجارب الشعرية لجيل الثمانينات الشعري دراسة بعنوان - ترسبات الحرب في الشعر العراقي الجديد - مقالات متسلسلة تناولت فيها تجارب ضمن قصائد لشعراء مثل منذر عبد الحر وطالب عبد العزيز و وجمال جاسم امين ورعد فاضل وامل الجبوري وعلي الفواز وعلاوي كاظم كشيش وماجد الحسن وسهام جبار وعلي حبش وكريم شغيدل ورياض الغريب وزيد الشهيد .... وغيرهم
ولكني حين استقصيت هذه الموضوعة في الشعر العراقي الجديد ولا سيما في عقد التسعينات وما بعده وجدت انها ظاهرة شعرية وعقدة ادبية مضيئة شعريا وضاغطة نفسيا حري بنا ان نقف عندها حتى لو كانت وقفة موجزة لكنها بالتاكيد قابلة للتطوير والتوسع والانتقاء واعطاء النصوص المختارة استحقاقها من النقد والتحليل والتاثير لننهض بها لاحقا كتابا يلم بهذه الموضوعة الاثيرة .. بعيدا عن التسميات المعروفة ( ادب الحرب ) او ( مؤثرات الحرب ) او تجليات او تمظهرات اوغيرها .. بل هي ادب ما بعد الحرب ، حين تصبح الحرب جرحاً شعرياً في قلب الانسان الشاعر ينزف بالقصائد او تنزف القصائد به حتى اخر عمره ..
وحين تنثقب الذاكرة بمثقب الفقدان فيتسرب الماضي من بين اصابع الشعر , وحين يبدو المستقبل قنديل يأس فنتشبث بالحاضر نحاول املاءه بالشعر حتى يسيح على الماضي والمستقبل فيصير تاريخاً كاملا ، وذلك حين نصطاد اللحظة الراهنة بشباك الشعر ..
حين نستدرج الزمن الى فضاء القصيدة لنفصّل منه تاريخا شعريا على مقاس مآسينا واحلامنا ..
ولم تكن الحرب تتمظهر في النصوص بشكلها الصريح اللفظي فحسب وانما بايحاءات قريبة او بعيدة يمكن مد حبل التحليل القرائي والنقدي اليها ..
فلو اطلعنا على بعض عناوين المجاميع الشعرية التي صدرت في فترة التسعينات وما بعدها لوجدنا هذه الايحاءات ماثلة فكيف اذا توغلنا في نصوصها واستقرأنا اعماقها وافاقها الفنية والدلالية ..
فعلى سبيل المثال عناوين مجاميع شعرية .. ( لا احد بانتظار احد ، سنوات بلا سبب ، تاريخ الاسى ، الركض وراء شيء واقف ، ثمارها المعاصي ، الوان باسلة ، غروب بابلي ، خيول مشاكسة ، قرابين ، جنائز معلقة ، خاتمة الحضور ، اماكن فارغة ..) وغيرها كثير من الدواوين التي كتبت بعد الحرب او الحروب ولكن ظلال الحرب بادية فيها ليس كعنونة موحية فحسب بل كمواضيع وثيمات متكررة ومتلبسة صيغا دلالية وفنية متعددة
اما عناوين القصائد التي تشير بايحاتها الدلالية القريبة او البعيدة الى ثيمة الحرب فهي بالطبع اكثر منها بكثير ..
و في التنقيب القرائي داخل تربة النصوص الشعرية سنجد في كثير منها موحيات الى موضوعة الحرب او مسببات او نتائج على شكل هموم ومآس وفقدانات ويأس و لاجدوى .. او احيانا نجد ان مآل النص سببه موضوعة الحرب وان كان بعيداً ظاهرياً عن ملفوظاتها النصية .. ...
يتبع ..