ح١ - الفصل الأول
جيل الثمانينات الشعري في العراق
كرسي بلا زمن ...
شهادة من الداخل
هذه ليست بيلوغرافيا او مسحاً تاريخياً لجيل الثمانينات او تسجيل وقائع واعطاء الاسماء التي شاركت في تشكيل المشهد الشعري الثمانيني في العراق من خلال رسم خارطة الحركة الشعرية لتلك المرحلة الزمنية ، بل هي نقل الهواجس المكبوتة والاشارة الى التفاعلات الداخلية للقصيدة الثمانينية من قلب الحدث الشعري المتواشج والمنبثق من قلب المشهد الحدثي او الزمني العام وصولاً الى خلاصة القصيدة او خلاصة الجيل عبر ارهاصات تاسيس خطابه الشعري ..
فاذا كان مصطلح الجيل الشعري يطلق على مجموعة من الشعراء الذين يمتد انبثاق خطابهم الشعري من بداية عقد زمني حتى نهايته التحاقاً بجيل شعري اخر ينبثق خطابه من بداية عقد زمني قادم وهكذا .. فان جيل الثمانينات الشعري في العراق هو الجيل الوحيد الذي لم يستوعب خطابه الاناء الزمني - سنوات الثمانينات - وساح خطابه الى عقد اخر هو عقد التسعينات وذلك لأن الاناء الزمني للجيل الثمانيني قد انكسر بشظايا الحرب التي جايلته وانتشر دخانها على امتداد العقد الثمانيني تقريباً فصادرت التسمية الجيلية زمنياً وجلست هذه الحرب على كرسي الزمن الذي كان من المؤمل ان يجلس عليه جيل الثمانينات الشعري ، واستلبت منصته الخطابية او منبره الاعلامي والنفسي الذي يقول من خلاله صوته الشعري الخاص به .. فلم يعد امامه خيار سوى ان يقول كلمته على منصة - اخرى - ليست منصة جيل وانما هي منصة حرب فرضها عليه زمن اخر ..
وهكذا ضغطت الحرب على الخطاب الشعري الثمانيني باتجاهين الاول هو الاتجاه الفني في القصيدة التي لبست الخاكي وعليها ان تشير الى انتمائها اكثر من اشارتها الى فنها لذلك تاجل مشروعها الفني البحت الخالص لان الشاعر الثمانيني دخل الى ساحة التسمية الجيلية او دخل الى بداية عقده الشعري من بوابة الحرب وتحت غبارها .. الحرب التي تريد من خطاب الشعر ان يكون ذا نبرة حماسة وتحريض واندماج مع معطياتها النفسية وانعطافاتها التاريخية بما يعزز الموقف الوطني للشاعر الثمانيني الذي هو بعمر الجندية بالتاكيد في تلك المرحلة .. أي ان الحرب تريد من الشاعر ان يكون جندياً شاعراً لا شاعراً جندياً ، من هنا كان صعباً عليه ان يتامل تجربته من الداخل اكثر مما كان عليه ان يعيشها أولاً.. امّا التامل فمؤجل تحت الغبار .. أي ان تؤجل اغلب الطروحات الفنية للقصيدة الثمانينية مقابل الطروحات الاخرى التي يريدها الموقف من الشاعر الذي يدفعه انتماؤه اليها ..
وقد ضعفت وشائج التفاعل الثقافي مع حركة وتطور الشعر والنقد والفنون الادبية والابداعية الاخرى التي توسع من افق الرؤيا الشعرية وتغني التجربة عمقاً وفناً مع الشاعر الذي وضع خطواته الاولى على عتبات زمنه الجيلي فانهارت جسور الموجهات القرائية والمعرفية التي تاخذ بيد الموهبة وترتفع بها على سلم الفن الشعري المستمد فعاليته وحيوته من الطبع والالهام او الاستعداد الفطري لقول الشعر من ناحية ، ومن الصقل المكتسب بهظم التجارب الشعرية الاخرى والتفاعل معها وبلورة الوعي بالثقافة الساندة للموهبة لتحقق المعادل الموضوعي للطبع والاكتساب ضمن التجربة الذاتية الشاعر .. فانقطعت اغلب الحبال التي تربط الطبع بالاكتساب، وحتى الطبع نفسه المبعد عن الاكتساب فانه لم يحافظ على صفاء البئر التي ينهل منها الشاعر ، بسبب غبار الزمن .. أي ان هذا الغبار لم يقف حائلاً بين الذات الشعرية ومباهجها المعرفية فحسب بل يكاد يزاحم هذه الذات على بريقها الداخلي ، بريق الماس الشعري لذالك فان هذه الذات الشعرية اعتصمت بوعيها الداخلي المعمق بالتجربة الحياتية الصعبة اكثر من تطلعها الى المعرفة الادبية المحيطة بالتجربة الشعرية الذاتية .. أي ان التجربة الثمانينية تجربة وعي مخمر في العقل الشعري .. تجربة تاجيل فني لكنه تاجيل اكتنازي يبحث عن فسحة صافية من الزمن واطلالة على العالم .. من خارج التجربة أي ان فنون الشعر عند الشاعر الثمانيني من انزياح وبلاغة وتكثيف ومفارقة وبناء كانت مظاهر حياتية لم تستكمل ادواتها الفنية اللائقة بها بعد . لذلك كان الشاعر الثمانيني يعيش الشعر و لا يكتبه يصنع الشعر ويركنه بعيدا في اعماق النفس فيكرس حالة التاجيل الفني للقصيدة .. كانت الذات الشعرية تنمي خميرتها الفنية وتحافظ عليها من الضغط الخارجي النفسي الشاغل ، وكانت تخشى على لغتها الشعرية من ان يقولها الغبار والشظايا ، ولكن الرؤية الشعرية كانت تتاصل وتنتظم وتتعمق داخل منابع الذات الصافية المراهنة على الزمن المؤجل المدفون في تراب الغيب . لقد كان التاجيل نفسه كنزاً تعول عليه الذات الشعرية وتخاف من ان تسلبها الحرب هذا الكنز الخفي فلا يصل الى لحظة الانفجار الشعري الموعود..