( حين يتكلم التراب )
الفصل الاول
جيل الثمانينات الشعري في العراق
كرسي بلا زمن
شهادة من الداخل
.. فكان خطاب الجيل الشعري متاخراً زمنياً ومتقدماً فنيا .. متاخر بسبب الزمن المهدور حيث سرقت الحرب منصته - عمره - او فترته الجيلية التي كان من المفترض تاريخيا ان يذيع فيها خطابه الشعري ، ومتقدما فنيا بسبب الزمن المهدور ايضا فكان احساسه بهذا الهدر يدفع التجربة باتجاه التكثيف والتعويض والتمرد ويبلورها فنيا ويهيء للحظة الانفجار الشعري الذي جذب اكبر نقاد العراق بمشاركة فعلية جادة وعميقة سبرت اغوار التجربة واضاءت لها نقديا وبشرت بولادة جيل شعري مفقود او جيل غريق في نهر الزمن خرج قبل ان يصفى الماء عليه ... ! فاعطت تلك الدراسات والبحوث النقدية صفة التبشير بالجيل وقرعت الاجراس النقدية بان شيئا ما حصل في الشعر العراقي وانعطافاً جوهرياً في القصيدة يستدعي الانتباه والتعامل معه بجديته و جدته .. على الرغم من ان النقد العراقي كان قد تعامل مع نماذج كثيرة من قصيدة النثر الجديدة مثل كتابات الاستاذ حاتم الصكر - تخطيطات بقلم الرصاص - ولكن كانت لحظة الانفجار والتتويج هي المنعطف الذي حدد مسار هذه القصيدة وموقعها الرئاسي الجديد بعد نجاح انقلابها .. فلاول مرة تعتلي قصيدة النثر منبرا بهذا الحجم بطرح جديد يشبه الانشاد معتمدة على الموسيقى الداخلية او الوهمية في القصيدة .. او معتمدة على ايقاع الفكرة او ايقاع الجرأة او من ايقاع الفقدان المنبعث من غبار عشر سنوات .. ثم استمر تدفق قصيدة النثر الى المشهد الشعري العراقي باصدار مجاميع شعرية عن طريق اتحاد الادباء في العراق كان من اولها ديوان الشاعر منذر عبد الحر ( قلادة الاخطاء ) عام ١٩٩٢ ثم الشاعر عبد الزهرة زكي ( اليد تكتشف ) عام 1993 عن دار الشؤون الثقافية و ديوان ( تاريخ الاسى ) للشاعر طالب عبد العزيز عام 1994 عن منشورات اتحاد ادباء العراق ثم ديوان - قلادة الاخطاء - للشاعر منذر عبد الحر وديوان ( السائر من الايام ) لمحمد تركي النصار وديوان ( سهول في قفص ) لوسام هاشم ... وغيرها
وهكذا صدرت اغلب - او كل - دواوين شعراء الثمانينات في عقد التسعينات او بعد منتصف التسعينات للغالبية العظمى منها لكن بحضور فني ملفت رغم تاخر صدورها ، مقارنة بدواوين شعراء جيل السبعينات بسبب استقرار تلك المرحلة وهدوء الزمن فكان المشهد الشعري لجيل السبعينات مستمرا بحلقاته المتوالدة والمتصلة عبر عقدهم الزمني من اوله حتى اخره واندماجه مع مرحلة الثمانينات وما بعدها .. فلم يكونوا يخمرون الشعر او يعتقونه في دواخلهم بل كانوا يشربونه - يذيعونه - اولاً باول .. أي انهم عاشوا شبابهم الشعري وكتبوه بكامل تاثيرهم وعمقهم الفني وشمولية الرؤية التي تتطلبها التجربة الشعرية المستقرة نفسيا ..
على عكس الثمانينين الذين عاشوا شعرهم الشبابي ولم يكتبوه في حينها .. او لم يوصلوه بحرارة التجربة وتكويناتها الفنية والبنائية الاولى ..
اما مقارنة بجيل التسعينات الذي بدا نشاطه الشعري وبواكير ظهوره على ساحة الادب منذ اواسط التسعينات و كانهم اعطوا الفرصة للثمانينين اصحاب الزمن المهدور وقد وجد التسعينيون قاعة الزمن مفتوحة والمنصة مهياة فكانت المهرجانات والمؤتمرات كثيرة منها مهرجان تموز للشعراء الشباب الذي اوصل كثيرا منهم الى مهرجان المربد الشعري الكبير الذي لم يشارك فيه شاعر ثمانيني في الثمانينات الا ما رحم ربي ! ثم انفتحت لهم ابواب النشر على مصراعيها وخاصة في سلسلة - ضد الحصار - او عن طريق الاستنساخ او الطبع على النفقة الشخصية ولا سيما ان الرقيب في التسعينات لم يكن رقيباً فنياً كما كان ....
اما جيل الثمانينات فقد استمر في امتداده الشعري سواء في قصيدة النثر مشروعه الشعري الاكبر او قصيدة التفعيلة الجديدة ايضا التي كتبها بعضهم او في القصيدة العمودية الجديدة التي كتبها بعضهم خارجين على سلطة الابوة الكلاسيكية كعادتهم ..
هنا اريد ان اقف قليلا واقول راياً قد يراه البعض غريباً بعض الشيء وهو اني ارى ان قصيدة العمود الجديدة في العراق تاثرت بقوة بقصيدة النثر الثمانينية على مستوى الدلالة طبعاً وفنون الشعر الجديدة الانزياح والتكثف الشديد او حتى مجانية التعبير كما تسميها سوزان برنارد في كتابها - قصيدة النثر .. - وذلك لانه من غير اللائق شعرياً ان يكتب شاعر انصهر في التجربة الثمانينية ومعطياتها الابداعية اذا اراد ان يكتب قصيدة عمودية - ان يكتبها على طريقة الرصافي او حتى الجواهري .. عليه ان يغرف من الجدول الشعري الثمانيني الجديد ويضيف اليه موسيقى الشعر التقليدية والا فهو سلفي شكلاً ومضمونا .. بل ان القصيدة العمودية التسعينية الجديدة التي كتبها بعض الشعراء الشباب بامتياز اراها قد خرجت من رحم قصيدة النثر الجديدة لا كما تبدو انها سليلة الشعر العمودي !! وهذه مفارقة يصعب هظمها تاريخيا ..
على اية حال نعود الى قصيدة النثر الثمانينية فهي على مستوى الشكل تمردت على الشكل السائد قصيدة التفعيلة كما هو معروف ولكنها جاهدت من اجل ابتكار شكلها البديل حتى لا تقع في فوضى شكلية او نفق لا شكلي لا خروج منه .. ولكن ماذا نقصد بالشكل الشعري اليس هو ما يتيحه الايقاع او يصنعه ويقدمه على بساط الايقاع السائد - التفعيلة - وهو بالحقيقة ايقاع نفسي وخط بياني يتحرك عليه القول الشعري وفضاء موسيقي بنبعث من اعماق البوح الشعري المتناسق مع الحركة الوزنية للقصيدة .. والآن نسال هل هناك خط بياني موسيقي لقصيدة النثر هل هناك ايقاع بديل ..؟ هل هناك تناسق وتناغم بين المفردات ضمن سياقها وترتيبها في فضاء النص او الورقة .. ؟ هل ثمة شفيع او مسوغ لخروجها عن السكة الايقاعية الدهرية ..؟ كان على قصيدة النثر الجديدة ان تجيب على هذه الاسئلة القاسية وعلى هذه المحاكمة الاصولية النصية وضمن هذا التناحر السؤالي كان على احد الشكلين ان يسحب البساط من الاخر وكان الميدان الشعري لا يتحمل او يتسع لأكثر من شكل فقمة الزمن الشعري صارت مدببة وضيقة جدا لا تتحمل سوى شعلة شعرية واحدة هكذا بدا المشهد بعد انجلاء الغبار . . كان الجواب على هذه الاسئلة نصاً مشحوناً بالشعرية .. في البدء لم تكن هناك فرصة للتعايش.. كان هناك شكلان شعريان طارد ومطرود وهذا ربما ما دعا شاعر قصيدة نثر مخضرما هو عبد الزهرة زكي ان يقول ( ان قصيدة النثر تحولت من قوة مطرودة الى قوة طاردة .. ) اذن علينا ان نفتش على قوة الطرد لنكمل الاجابة على الاسئلة الماثلة .. من يستطيع ان يطرد جبلاً او اجيالاً شعرية متحصنة بسحر الايقاع وهالة الزمن .. هل تستطيع فوضى شكلية ان تفعل ذلك ؟!
الاجابة تكمن في الانموذج ذي اللغة الشعرية المسبوكة بعناية وبتفعيل فنون الشعرية الاخرى لتقول لنا القصيدة الجديدة ان الشعر ليس شكلاً ولكنه ياتي ضمن شكل او وعاء يحمله وان كانت بعض الاشياء تاتي بلا شكل كالريح والظل والماء .. هنا اذكرقول المتنبي ( كأشربة وقفن بلا اواني ..) هذا الوصف يليق بقصيدة النثر..