هو إستثنائي في التجديد والموقف
غايته الجمال والعدالة
مظفر النواب
شاعر يشبهُ قصيدته
عبدالكريم هداد
20-5-2022
******
وقد كان له فصلاً كاملاً من كتابي " مدخل للشعر الشعبي العراقي" جاء فيه:::
قصيدة التجديد
مما سبق يتضح لنا إن الأشكال الشعرية التي مورست وترسخت كقوالب للقصيدة الشعبية القديمة ، قدحددت إطارحرية الشاعر في إختيار الأيقاع والجملة الشعرية التي كانت متشابهة وموحدة لديهم تقريباً. وبقيت التجربة وئيدة الخطى. تضيق بها مساحة الأطر الشعرية ونوعية التراكيب والأساليب التي تحدد عالم التخيل، فبقيت المواضيع الشعرية متكررة في أغلب الأحيان. ولا تخرج عن التصور العام والفكرة العائمة عن الأشياء الروحية والمادية. لذا كان المناخ الشعري متعثراً في التجديد الفني المطلوب، لأستيعاب إبداع شعري متنوع الرؤية العميقة وشمولي التعبير، يوازي القضايا الملحة والمستجدة داخل المجتمع سياسياً وإجتماعياً.
مضمون أية قصيدة لابد لها أن تتطلع لتفسيرات وأفكار الشاعر ، بما يعتنق والخلفية الفكرية والتأثيرات الكمية والنوعية التي عاشها وتجربته الحياتية. وخلال تجربة القصيدة القديمة، يمكن تلمس ما يساعدنا على رسم صورة حركة المجتمع .وكذلك ما لدى شاعرها من معتقدات ومفاهيم إجتماعية . رغم الصورة الشعرية للأشكال القديمة سطحية الرؤية وساذجة أحياناً، لخلوها من الرؤية الشعرية العميقة الغور للمضمون. فبقيت الصورة الشعرية فطرية ووصفية عائمة على سطح ساكن غير متحرك، وإن ملئت بالعاطفة الأنسانية الصادقة والجياشة.
غدت مضامين قصائد زمن الماضي ذات سياق أحادي ، ولم يخطو الشاعر نحو موضوعات أخرى بعيداً عن النـسخ والتشابه والتطابق ، فالرؤية لديه مباشرة بمعية النبرة الخطابية العـالـيـة، والمرتكزة على تكوين فطري حياتي غير متسع الأفق. والفرق شاسع بين من يرى سوى وجه في المرآة وبين من يرى صورته والجميع . لقد حال ذلك دون الإندفاع نحو إكتشافات حياتية. وهذا ما يؤكده الشاعر المجدد الراحل طارق ياسين من أن الفعل الموجـود في – الدارمي - القصيدة الشعبية هو ( فعل حيوي خصب يتقدم الى الأمام ، إلا أنه يقف بشكل مفاجئ، عاجزاً عن التقدم والإيغال في أشياء الحياة ومجالاتها، الى منتصف غاية تغيرها تغيراً شاملاً من الجذر. وهو يصطدم بجدار ما. وهو نتاج أدبي وفكري جاء على لسان الفلاحين والحرفيين، فكان ينبوع حكمتهم التلقائية المباشرة وعلامة على تذمرهم من وضعهم الأجتماعي والنفسي، ودليلاً على رفضهم واحتجاجهم وشكواهم ومواقفهم من الحياة وما يعتريهم من حالات الفرح والحزن والطرب واليأس والتفائل )(77) .
ومنذ أواخر النصف الأول لقرن العشرين إرتبطت الحياة الثقافية العراقية ، عموماً والشعر العراقي خاصة ، بتطور وعي الحركة السياسية العراقية ومعتركها الثقافي العام. حيث إنتعشت الحياة الأدبية ، وإرتقت مع تنامي الحياة الفكرية وتجاربها الإنسانية ، داخل اليسار العراقي الممتلك لجماهيرية كبيرة آنذاك في الشارع العراقي. حيث ترسخت رقـعة التجديد الثقـافي في خمسينات القرن الماضي. وما حقـقـه الشعر المكتوب باللغة العربية الفصحى، من تـجديد نوعي على يد الشعراء العراقيين الكبار :"بدر شاكرالسياب ، نازك الملائكة ، بلـنـدالحيدري، وعبدالوهاب البياتي، في ما أنجزوه من قصيدة عربية مفتوحة الآفاق المتعددة والتنوع الحضاري في حركة الحياة اليومية العراقية. هذا التجديد الثقافي والأدبي الكبير والمتسع في التأثر والتأثير، حتم وبضرورة واعية لابـد منها ، في الشعر الشعبي العراقي، وعلى يـد الشاعر المبدع الكبير مظفر النواب، بأن يفتح باباً واسعاً لقصيدة شعبية عراقية حديثة، باباً كان مغلقاً أمام مضامين إحتكرتها قصيدة اللغة العربية ذات المضامين المتجددة والمتعددة التنويعات شكلاً ومضموناً، والتي تجددت على أيدي صانعي حركة الشعر الحر في العراق. وأفضل تقديمة ترحيبية بهذا الإنجاز الشعري الشعبي العراقي، هو ما كتبه الشاعرالكبير والمبدع سعدي يوسف حينما نشرت قصيدة " الريل وحمد" لمظفر النواب ، حيث علق بقوله : ( أضع جبين شعري على أعتاب الريل وحمد ) .
لقد كانت قصيدة النواب قصيدة تأسيسية متجذرة القوة كالسنديان . حيث تجذرت في الذاكرة الشعرية العراقية بكل طاقتها الأبداعية التأثيرية. وهي تقف ، بإنسجام ساحر لمعاني العشق وبطولة القيم الوطنية ، على أرضية قصيدة متكاملة الخواص . ونسيجها الشعري المبني على جماليات الجملة الشعرية ذات الخيال الخصب المتعدد الألوان والتضادات والرؤية الأنسانية. وهي تتكئ على تراث القصيدة الشعبية العراقية ومفردتها العميقة الدلالة في شاعريتها.
والتجربة الشعرية للشاعر مظفر النواب ذات أهمية تأسيسية. ورؤيته تتلخص بأن (للشعرالعامي مزاياه وعالمه، وللشعر الفصيح مزاياه وعالمه، إن ذلك يشبه الشغل على مادتين مختلفتين تـماماً، فعندما تـنحت على الصخر غير أن تشكل تكوينات بواسطة الطين. الطين، القصيدة العامية، كون العامية مطواعة وبعيدة عن موضوع النحو والأرث البلاغي الذي يشد شاعر الفصحى بأبعاد معينة، ثم إن إشتقاقات العامية وتراكيبها تمنح الشاعر سعة وحرية في إشتقاق أية مفردة ربما غير موجودة أساساً وتؤدي معناها... أما العامية فهي مثل الطين المختمر.) (78)
قصيدة مظفر النواب في تجربتها الريادية في الشعر الشعبي، إعتمدت القوالب المتمرسة في الشعر الشعبي العراقي القديم لشكل المربع، فكانت قصائده مقطعية الشكل ربـاعـية الأبيات في أغلبها، مع الوضوح البارز في تركيبة الوزن المأخوذة من الهوسة ، التجليبة ، الموشح ، الميمر ، الجلمة ونص متخلياً عن المطلع المستهل الذي غالباً ما تبدأ به بعض القصائد القديمة ، وتقيد المقاطع إليها . وإن كان الشاعر النواب يعتمده أحياناً ، لكن ليس كما الطريقة المتبعة عند الشاعر القديم ، بل سخر الأشكال القديمة وصهرها في تكوين جديد، وتطريزة جديدة . ونلاحظ ذلك جيداً في قصيدة " أيام المزبن " التي تبدأ بمطلع لشكل الدارمي ، يتكرر بين مقاطع القصيدة الرباعية بضامين شعريـة أخرى ...
دِكْ راسَكْ ، ابْكاعْ العِرسْ... واصْعَدْ مْراجَفْ ... لِلدَفْ
أيام المزَبَّنْ ... كضَنْ... تِكظَنْ ، يَاأيام اللَفْ (79)
لقد اتسمت قصيدة الشاعر مظفر النواب الشعبية بتنويع إيقاع وزن التفعيلة المترسخة في الحياة الثقافية العراقية خلال خمسينات القرن الماضي. حيث نهج اسلوباً حداثوياً في شعره الشعبي، إقترب به كثيراً من النـخبة المثقفة دون أن تـتخلى فيه القصيدة الشعبية عن جمهورها الحقيقي . والحداثة بالنسبة له ( تأتي من القدر الذي إستوعبته من معطيات عصرك، كم هو أفق نظرتك وخيالك وشفافيتك وحساسيتك، كل هذا مهم للعمل الشعري. هذا هو الذي يخلق التجدد من دون أن تعلم، أن تجلس قائلاً لنفسك أريد أن أجدد وتكتب كتاباً ، هذا ليس تجديداً ، بل هو أما تنفيذ لنظريات وآراء...الخ .
الشعر ليس هذا، الشعر ملامسة هائلة لأسرار الوجود، في لحظة الملامسة هذه تكون شفافاً بالقدر الذي تكون فيه قادراً على التعبير عن هذه الملامسة.) (80) أبدع النواب بشاعريته المضيئة ، في مزج الأشكال الشعرية الشعبية الغنية الدلالة بشئ من التوشيح البنائي المتراص داخل القصيدة التي تود الأقتراب من شكل قصيدة الشعر الحر، مع إصراره الكـبـير على إنتقاء ما يلائمه من قاموس اللـهجة العراقـية - خاصـــة المسميات – وقاموسه يضم مفردة المدينة السلسة واللذيذة النبرة في النسج الشعري ذي الديباجة البغدادية
داخل سياق الروحية الريفية في إيقاع موسيقىصياغة قصيدته ، ( فالمفردة العامة أو الصيغة العامية لها قدرة على تأجيج الناس أكثر مما تفعل العربية الفصحى ، خصوصاً في الأوساط الشعبية ولا ننسى وجود نسبة عالية من الأمية في بلداننا ) (81) . وقد تميز ديوانه ( الريل وحمد ) بجمالية التنوع الموسيقى الزاخر بالغنائية الفلكلورية العالية الرنين . لذا غنيت معظم قصائد الديوان المذكور وصارت من الأغاني الشهيرة كقصيدة (مضايف هيل ) (82) . وهي في بنية الهوسة العراقية ، وإنفعاليتها الشعرية وإيقاعها الحاد، الذي يدفع بصدى الحماسة. والقصيدة رباعية الأبيات ، تنتهي مقاطعها بإهزوجة :
مَيْلَنْ ... لا تنكطَن كِحِلْ... فوك الدمْ
مَيْلَنْ ، وردَةْ الخِزامَة تِنْكِطْ سَمْ
جرح صْويحِبْ ، بْعِطابَه ، مايِلْتَمْ
لا تِفْرَحْ ابْدَمْنَه...لا يَلْكطاعي
صويحِب من يِموتْ الِمنجَل يْداعي
**
حاهْ .. شْوِسِعْ جَرْحَكْ ! مايِسِدّه الثارْ
يَصْويحِبْ...وَحَكْ الدّمْ ، وْدَمكْ حارْ
من بَعْدَك ، مِناجِلْ غيظْ ايْحِصْدَنْ نـارْ
شِيلْ بْيارِغْ الدمْ ، فوك يَلساعي
صْويحِبْ من يِموتْ الِمنجَلْ يْداعي
**
طِشّنْ...طيبْ...وخِزاماتْ...ورِزْ عَنْبَرْ
وِبْحِسْنْ الكِصايِبْ ، حَـنّنْ المعبر
ماهي جْروحْ ، يَصويحِبْ..نَكِشْ خَنْجَرْ
حِسَّكْ...حِسَّكْ...اتنبّر يَهَلْ ناعي
صْويحِبْ من يِموتْ الِمنجَل يْداعي (83)
بذلك ظل مظفر النواب وفياً للقصيدة الشعبية ، بالرغم من ثورية قصيـدته شكلاً ومضموناً، إنها قصيدة نابعة من صميم التراث العراقي ، ترتدي كل ألوان الطيف الفلكلوري التعبيري ، لكنها تمتلك الوعي الأنساني. وهذا الأقتراب الشديد جاء حسب قول الشاعر ( من الأجواء التي عشتها ، الطفولة وهدهدات المهد ، الأهازيج والسبايات ، الأعياد والأراجيح – أو الأرجوحات - . في البيئة التي عشتها كنت أتلقى كل ما حولي بالعامية ، الجو كله كـان مشبعاً بالعامية المشحونة بالذكريات والحساسيات التي تولد معها، هذا جانب. أما الجانب الثاني فهو إن للعامية قدرة عالية على ملامسة الناس في العراق تحديداً ) (84) . في قصيدة (مضايف هيل ) نرى بوضوح تام أيضاً ،كيف مزج ببراعة بين شكل " المربع " والهوسة في قالب متجانس الوزن والأيقاع والرؤية ، ولم تخرج عن السياق ذاته قصيدة " عشاير سعود" .
وديوان " الريل وحمد " يحوي قصائد التأسيس الجديدة للشكل ، رغم الفواصل داخل كيانها. وهي تعتمد على تفعيلة أوزان الشعر الشعبي الـعراقي
وموسيقى اللهجة العراقية خاصة قصيدة " جد إزيرج " ، التي فيها تنوع في القوافي والموسيقي .
هكذا كتب الشاعر مظفر النواب قصائده الأولى، وإنطلق مرة أخرى بقوة حتمها الموقف من معترك حلم حياتي إلتزم به، وضاع مع إنحسار المد اليساري العراقي ، فكانت قصيدتيه الهامتين - ليل البنفسج ، روحي - ناهضة في شكل جديد للقصيدة الشعبية .وهي تتجلى في مراثيها ( ناعياً الحلم المقتول بشجن محبٍ دنفٍ . فلامس لوعة أجيال عاشت تألق الحلم وانحساره وبإسلوب جديد نأى عن المباشرة في قصائده الحماسية مما جعل القصيدتين المذكورتين ترتقيان الى مصاف الهم الأنساني الشامل . وظلتا متداولتين جيلاً بعد جيل . إن قصائد الـخيـبة المظفرية ، والتي لم تخلُ قصائده السياسية الحماسية من ظلالها ، عبرت عن نبض الناس في تلك الأيام ومزاجهم )(85).
واكعِدْ لَكْ عَلى فراشِ العِرِسْ
طَرْكْ المِسِجْ والنوم
عُمُرْ واتْعَدّه الثلاثين ... لا يَفْلانْ
عُمُرْ واتْعَدَّه...واتْعَدّيتْ...واتْعَدّيتْ
ولا نوبَه عذر وَديتْ
وانَه والمِسِجْ والليل... وانْتَ النوم
وغَمَّضْ عُودْ أجيسَكْ ياتَرِفْ
تاخِذني زَخَّةْ لوم
واكِلَكْ ليشْ وازيتْ العُمر يَفْلانْ
يَفلان العُمر يَفْلانْ
يَفْلانْ العُمر يَشْكَر...وِلَكْ يَفْلانْ
شِي وَكْفْ العُمر يَفْلانْ...وهَجْرَكْ دومْ (86)
القصيدة أعلاه تمثل التطور والأفق الجديد في شكل القصيدة بما أحدثه الشاعر مظفر النواب من طاقة عالية التجديد والتفرس في الهموم المعاصرة وقراءتها برؤية جديدة ، حثت الكثير من الشعراء ، في تقليدها أو التقدم نحو آفاق جديدة بعزم هذا التجديد المتواصل . فكثرت القصائد الأنسانية ذات الحس الوطني والسياسي ، وتنوعت الأشكال والأساليب ، مع نضوج عالي الجودة في الشعر الشعبي العراقي ، لايمكن تجاهله ضمن مساحة الحياة الثقافية العراقية .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
77- جريدة طريق الشعب العدد 726.
78- مظفر النواب ، جريدة الشرق الأوسط . العدد 7640 .
79- ديوان الريل وحمد .ص133.
80- مظفر النواب ، جريدة الحياة – لندن . العدد 11783 .
81- مظفر النواب ، جريدة الحياة – لندن .العدد 11783 .
82- لحن وغناء الفنان العراقي سامي كمال ضمن مجموعته الغنائية المعنونة لـبغداد .
83- ديوان الريل و حمد . ص 23 .
84- جريدة الحياة –لندن . العدد 11783 .
85- سلام ابراهيم . الثقافة الجديدة .العدد.273.
86- مظفر النواب . حياته وشعره . ص 66-67 .