recent
أخبار ساخنة

لعبة سيولة الزمن وتشظيه في "ضباب هرم لساعات ميتة" للقاص والروائي العراقي علي لفته سعيد .طالب عمران المعموري

لعبة سيولة الزمن وتشظيه في "ضباب هرم لساعات ميتة" للقاص والروائي العراقي علي لفته سعيد .
طالب عمران المعموري
لاشك ان التنوع القصصي متأتي من ملكة الكاتب وقدراته الفنية في توظيف التقنيات في استعمال عناصر القص او الحكي وتشابكها فيما بينها لتكوين نسيج القصة وان هذا التنوع والتداخل بين عناصر القصة يؤكد انماطاً للسرد أو الحكاية .
ومن بين هذه العناصر " الزمن " الذي يتشكل في كل موقف وفي كل لحظة فهو الاطار الحافظ للعناصر وهو من الوحدات الاساسية في بناء القصة تضفي على القصة اشكالا من الفهم والتأويل هذا ما نلمسه في المجموعة القصصية "ضباب هرم لساعات ميتة " للروائي والقاص علي لفتة سعيد الصادرة عن منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق.
وقد رصدنا عنصر الزمن وكيف استعمله الكاتب في السرد والحكاية وكيف استطاع الوقوف على انواعه والتحكم في نسجها وان جميع العناصر الاخرى مرتبطة بالزمن ، شخصيات ،وفضاء واحداث .
أول مناصات المجموعة لوحة الغلاف وهي لوحة تجريدية للفنان ستيف مارتن المعبرة عن البعد الزمني عن شجرة يابسة مفتوحة الاشداق ذات جذور قوية موغلة في القدم وهي تموت واقفة، بالألوان الرصاصي والاسود، من حولها غيوم بيضاء بأبعاد تعبيرية ورمزية تعبر عن الموت والحزن والضبابية، أرى ان اختيار اللوحة لم يكن عفويا لتجميل غلاف المجموعة وانما جاءت عن قصد في مناصاتها المهمة في المجموعة والتي تعبر الى حد كبير عن محتوى قصصه . وقد تتناسب مع عنونة المجموعة من خلال لعبة الاستخدام اللوني وطريقة توظيفها بقصد الطرح الفلسفي
وحضور الزمن وعلاقاته السردية واهتمامه الأكبر بما وراء المفردات وما تحمله من زخم شعوري لان التجريد شعور عميق بالأشياء واتخاذه كمنهج في التفكير.
العنوان ( ضباب هرم لساعات ميتة) وهو العتبة الاولى للمجموعته القصصية ومستأنفا للوحة التجريدية عنوان يحمل (البعد السريالي) وثمة شعرية واضحة وانزياح لغوي يزيح المفهوم الدلالي ، محاولا وضع فلسفته التجريدية في ابداعه الانساني والنفوذ عميقا الى حقائق الاشياء يفتح لنا باب الولوج الى عوالم سردياته القصصية بألوانها الداكنة الذي يعبر عن حزنه الطاغي من معاني الموت والوجع والآهات.
ميتةٌ ثانية/ ميت قديم/ صراخ صامت / جثث حالمة /احتراق/
الزمن وبنيات النص:
مجموعته القصصية مفعمة بالزمن ،بدءً من العنوان وبعض العناوين الفرعية التي تحمل في طياتها البعد الزمن، بلغة انزياحيه ومفارقات لفظية وبثنائيات ضدية ومتقابلة، ضباب هرم/ ساعات ميته/ ساعات هرمة/صراخ صامت/جثث حالمة/فكرة من الارض/ما تساقط من صراخ/ رماد الحروف/ حوار في درجة الصفر/ظلال تائهة/ تسلسل الصهيل.
تنوعت الازمنة وتداخلت بين الماضي والحاضر وارتبطت ارتباطا وثيقا بالسرد اذ لا سرد بلا زمن وهذا الارتباط هو الذي منح الزمن أهميته في القصة بوصفها فناً سردياً
 اعتمد القاص من حيث حالة التداخل في جسد النص واضفاء الحركية والفاعلية وبث الروح فيه وهنا يكون "الزمن عاملا أكبر في عملية انتقال النص من كونه ظاهرة لغوية تجمع الخطاب والتبليغ وفي مستوى الدلالة والرسالة والمقام الى نص ادهاشي كائن يتحرك في المعنى وينتقل بقصدياته ويتمحور حول ذرة التأويل ومعاني الفلسفة"1
استهل الكاتب مجموعته القصصية اولى قصصه بعنونة (ميتة ثانية لميت قديم) يحمل ملامح الزمن ومن الجملة الاولى الاستهلالية يكمن الزمن (خرجت لتوّي بجسدٍ آخر.. كان القحط يلازمني او هكذا أرى ..قضيتها لا لأرى، لا أسمع ، لا أتكلم.. كان السؤال معلقاً في ظلمتي"2
خرجت/لتوّي/ يلازمني/أرى/قضيتها/أسمع/أتكلم /كان
نلمس من خلال تلك الافعال المتضمنة للزمن المتغلغل في بنيته السردية شعورياً او باطنياً متجلياً في زمن ذي صبغة سريالية او تجريدية فلسفية تعتمد على اللغة ومن ثمة ينتج نصاً يحتمل التأويل، ارتباطه الشديد مع النص " النص مرتبط ارتباطا ديالكتيكياً بالزمن، والحواس"3
ويشكل الزمن اهم عناصره ويترتب عليه التشويق والايقاع والديمومة حيث اعتمد القاص انماطاً من السرد وترتيباً زمنياً متواتراً يجتمع في حياة شخصياته ويقف على مواطن متعددة من الذات الانسانية وخطاب الروح والوجدان ، حيث يعرض افعالا ومشاعر معروضة للمتلقي من ذكريات أليمة تتداخل معها ويصور لنا هذا الترتيب الزمني الواقع وصراعاته السياسية والاجتماعية والفكرية:
" لا شيء غير الظلام والهذيان ..لا أفرق بين الليل والنهار. الذاكرة تختزن أصوات الانفجارات وصراخي على الجنود أن أختبئوا..لا أحد يستحق الموت.. ولا تنتبهوا الى اللحظة الاخيرة" ص13
يروي لنا حكاياته بأسلوب قص تتعدد صيغ الزمن في مبناه الحكائي والتنقل عبر الزمن من الواقع الى الخيال او من زمن افتراضي يمكن ان تلمسّه من خلال وحدات النص الكلي الى زمن واقعي فهو نراه يصنع أزمنته المتخيلة من أرض الواقع الزمن المحسوس الى الزمن الملموس الذي يسعى الى نقله الى المتلقي :
"نور ساطع يوضح لي كل شيء أخضر وأزرق وحتى ألوان قزحٍ، وثمة قطراتٌ حمر تخرج من قحفة رأسي فأشعر بثقبٍ هناك لا أتذكر بسبٍ من صار ومن أحدثه وكأنه ثقب برصاصة أو شظية أو بفعل هذا الرقاد"ص15
ففي هذا المقطع بناء وخلق زمن افتراضي في زمن واقعي هو زمن الحرب ، لكنه عمد على انتاج حكاية خيالية غير واقعية في زمن افتراضي وان هذا الزمن قابل للتصديق والتكذيب كون هذا الزمن يمتلك مدلولا مخيالي .
" ..غابت أجزاء من كفي ولحمة ذراعي، أخذ قدمي وربلة ساقيّ وجزءاً من أردافي.. كان الماء سريعاً وكلما كنت أتنفس وأرتوي كنت أشعر بنقصان جسدي.. أشعر بأن جسدي مندفعٌ مع موج سريع أحدثه فيضان عجيبٌ.. تمنّيت لو اصطدمت ببلمٍ من أبلام نهر الغراف.. بالساتر الترابي الذي كنت أنام في أحد ملاجئه.. بجذع نخلة أو حتى صخرة كبيرة لتكون مصداً فقد بدأ جسدي يتفتت وتكثر ثقوبه" ص16
 فمن الواضح في المقطع اعلاه غرائبية السرد و شكلا تعبيريا اخر عن التيه و الضباب و الوهم و حياة كالحلم في عدم منطقيتها و التباس امورها ، فينتقل السرد بشكل عشوائي لا منطقي بين المقاطع و الاحداث بشبكة ترابطات بعيدة تحقق سريالية واضحة في النص .
الزمن النفسي
يتعايش الانسان متواصلا مع الاخرين ويشاركهم بما يمتلكه من خبرات ومعارف في زمنه الاجتماعي وينصهر معهم في الحياة وما يحمله من تصورات وافعال وسلوكيات ،حيث ان الفعل الصادر من الانسان مهما كانت بساطته لا ينطلق من فراغ وانما له دوافع داخلية في توجيه الفهم والسلوك خاصة في فعل الكتابة وبالتالي لما لها من دور في ظهور الزمن النفسي سواء عند الكاتب او المتلقي، لان هناك نزعات لا تحصى تبرز اثناء انتاج النص او تلقيه في اللاوعي التي تكاد تكون غامضة، تتفاعل الازمنة بما تتضمنه من رغبات وافعال تتبلور وتتشكل في بؤرة أكبر في عملية الفهم، القراءة والكتابة وبعدها يتوجه الذهن الى المعاني وتأويلها.
يعد النص حاملا للزمن النفسي ومرتبطاً بالحالة النفسية سواء للكاتب او المتلقي بدا من اللحظة الزمنية التي تتزامن مع الحالة النفسية التي تتولد فيها الفكرة والتساؤل النفسي والفلسفي في طرح رؤياه.
شكل الزمن هاجس للبحث الفلسفي من حيث انه " حقيقة مجردة وسائلة لا تظهر الا ن خلال فعلها في العناصرالاخرى"4 نلمس ذلك في اختيار لحظة البدء في استهلال قصته "ساعات هرمة" حيث يمزج وصف الحالة النفسية للشخصية بتصويره في الوسط الاجتماعي، التقاء الزمن النفسي والزمن الاجتماعي ويتلاقح بصور متعددة يشد القارئ ومحاولة في فهم ما فيها من اسرار انطوت فيها، تصور المدى النفسي للحكاية:
"الساعات الاولى التي مرّت لم تكن تحمل معها أية ملامح واضحة، فقد فقدت عذريتها في اللحظة التي انطلق فيه صوت الخوف داخل روحه، واستسلم لكلّ ما هو مطبق على خناقه.."
يتمظهر الزمن في الاشياء المجسدة وسيولته في صيرورته وسيرورته وما يحدثه من تغيرات (الحداثة السائلة)"ففي هذا الزمن تذوب المراكز الصلبة وتفسح الطريق لعولمة الاقتصاد وعولمة الجريمة واستلاب حقوق الانسان الشخصية والاجتماعية والسياسية باسم الحرب على الارهاب وموجة العنف والارهاب المحتمل...وتنفصل السياسة عن السلطة فيتلاشى اهتمام السياسة بالإنسان وما يتطلع اليه من " من عيش ، حرية، عدالة اجتاعية"5 وارتفاع رصيد المخاوف نتيجة غياب العرف ومنظومة الاخلاق الاجتماعية.
 تبدو لنا هذه التغيرات جلية وواضحة رغم خفاء التأثير، فهو موجود في كل مفاصل حياتنا يرسم لنفسه عمراً متجاوزا حدود التجسيم موجود فينا وكائنا بنا وبتمظهر نفسي غير محسوس نرى آثاره هنا وهناك :
"كانت الفراشات تحوم حول رأسها وتمنحها عطر اللحظة التي تفوق العمر كله.. كانت تنظر اليه وتريده أن يقابلها بذات النظرة، وتدرك انه متعب ومترب، تراه يحسس العرق اللزج بين رقبته وشعر رأسه"ص24
فالماضي هنا يمثل الزمن النفسي في القصة وتفرعاته النسبية تجمع بين الاوضاع السردية والحاضر داخل السرد وهو زمن القاص ورؤيته للعلاقة بين الماضي والحاضر .
القاص علي لفته سعيد في مجموعته القصصية يظهر براعته القصصية في تقطيعه المتميز للزمن المتعارض مع التسلسل التعاقبي من انحراف وتشوهات الزمن في تحقق المتعة والادهاش يتجلى فيه دور الزمن في جماليات القصة الحديثة وانتاجها الدلالي .
google-playkhamsatmostaqltradent