المخيس رواية من أدب السجون .. ثيمة الحرية المقموعة في يوميات السارد السجين .. للروائي غانم عمران المعموري .
........
ظاهر حبيب الكلابي .....
يمتاز أدب السجون بكونه ذلك الأدب الذي يحاول التملص من لحظات جاثمة على الصدر ، متسربلة بالنفي والقلق والإقصاء !؟
فهي تتناول أمكنة مسلوبة النزعة الإنسانية !
تمتهن بحرفية وإصرار على إفراغ الإنسان من كينونته ؟ وتعطيل حواسه ، ومنافذ تفكيره بكل ما من شأنه أن يقترب بالكائن الحي ، والحيوان الناطق من ممارسة دوره ككائن مفكر يبتغي الحرية ويسعى نحو الكرامة ،
من هذا الفضاء تأتي رواية (المخيس ) الصادرة عن دار الوتريات للنشر والتوزيع عام ٢٠٢١ ، لكاتبها الروائي غانم عمران المعموري حيث تدلف نحو عالم السجون ، عبر شخصية البطل السجين موسى الذي كان بطلا وساردا عليما محايثا ورائيا وساردا لمجمل أحداث الرواية ، عبر السرد الملفوظ بجمر المصادرة وفيض القلق وعتبات الضياع ، و كذلك عبر مونولوج ذاتي ، الذي يتشظى بالمكبوت والأحلام المؤجلة والحرية القابعة في الزمن الهارب بعيدا عن عيون المقموعين ، والمخضب بدوامة السؤال عن مدى معقولية مايجري في لوحة الوجود الداكنة ، التي تتناول المكان العدائي الكابوسي باعتباره المكان الذي يتصف بنصف الموت ونصف الحياة ،
او قل انه الموت بتمثلاته وتموجاته العنيفة ولكن على جرعات وتوقيتات السجان ، الذي يتلذلذ بتعذيب ضحاياه ، تظهير سردي . .
وضعوا خرق من القماش على أعيننا و شدوها إلى إلى نهاية الرأس على أن يمسك من في بداية الصف مقدمة قميص أو ثوب الذي خلفه وهكذا إلى نهاية الصف ونسير وكأننا عميان يقودنا بصير واحد .ص١٨ . ( فاجتمعوا علينا كالدبابير الحمراء التي تنقض على خلية نحل وتقتل كل من فيها، بدأ التحقيق بأقسى أنواع التعذيب ولم يك لك حق الإدلاء بالأقوال وانما عليك فقط التوقيع على إفادة أعدت مسبقا ) ص١٩
فمع عنونة الرواية المخيس التي جاءت بملفوظ ، يختزل وعبر ما يجسده في الوعي الجماعي ، شتى أنواع السلب والإهانة والترك والإهمال من دلالة التخييس والتعفين والإهمال ، تتعفن الأشياء بطول المكث من دون هواء نقي وشمس مشرقة ، هكذا اقتنص الروائي عنونة روايته من تلافيف الوعي الشعبي وما يمور ، بداخلها من تعابير ضاجة بالقرف والسحق ، مسكونة بالرعب من مهارة الإنسان وتجاوزه أساليب الحيوانات ، في فنون تعذيب أخاه الإنسان ، أضف إلى عتبة أخرى تتشكل من لوحة غلاف الرواية ، لصورة سجين يمسك قضبان السجن ، بلوعة وانهيار تطالعه في الخارج لوحة من تراكم البياض كأنها سحب مركونة تراود فتاها خلف القضبان ، على أمل يجيء بالخلاص والحرية ولو بعد حين ،
تتناول الرواية التي بدأت من حيث إنتهت قصة مدونة أو مخطوطة رواية كتبها السارد السجين موسى الأسمر ، وقد تضمنت الرواية يوميات ومشاهدات الرائي السجين موسى ، الذي زج به نحو المعتقلات في قضية مشتبه به ، ضمن سيناريوهات المخبر السري ، حيث تضج الرواية عبر تمرحلات الكينونة ، التي تجتاز لحظات نفيها بألم وحرقة وقلق ، وهي تعايش أقسى العوالم قهرا ومصادرة ، فهي تقبع مع غيرها في أمكنة النفي والجدب والقلق ، وغياب المصير ومجهولية الآتي ،
فقد هيمن السرد بضمير الرائي المتكلم موسى السجين المثقف الواعي ،
و جاءت الرواية بصوت واحد وأن وجدت شخصيات محادثة للبطل ولكنها جاءت عبر تخليقات وصنع وعي الشخصية المهيمنة ، والحاكية للمصير الجمعي للمساجين الذين تنوعت همومهم، و مصائرهم بتنوع التهم المشخصة ضدهم ، وتنوع وعيهم وسلوكهم بتنوع ثقافاتهم ، تظهير سردي ( هل هذه المخطوطة لها علاقة في طلب نقلك ، أجاب المدير : نعم انا موسى بطل القصة في هذه المخطوطة افكر في آلاف الأجساد التي تركت ضحكات قليلة وآلاما وأوجاعا كثيرة وفي أفواه تكدست الأصوات واختنقت قصصهم وحكاياتهم بأسرارها المخفية المدفونة ، وذاك مكان محمود المجنون الذي كانت تعبث به أيدي المجرمين عرفت فيما بعد بأن ذوي السوابق من السجناء القدماء يستغلون جنونه ويمارس معه الفعل الجنسي في الحمام بكل وقاحة ونذالة وليس استعطافا منهم كما كنت أظن وجد مخنوقا في الصباح ولم يعرف قاتله ، ص١٠٥ ، وحتى لاترجع وتسألني عن مصير صديقي أثير الذي ذكرته في مرات عديدة ولماذا كان ينزوي ويختفي فترة طويلة في الحمامات ليلا ، فقد أفقت صباحا على صوت أحد النزلاء وهو يصرخ : أثير انتحر، شاهدته صريعا في زاوية الحمام ويدية تنزفان دما يمسك ورقة خط عليها ؛ انا المقتول بسيف القبلية والأعراض البالية ، اما أسامة وقصة حبه من الفتاة ذات الفوطة الحمراء فقد اكتشف في إحدى المواجهات عندما كان يجلس مجاورة لعائلتها بأنها خرساء بكماء وقضى فترة حكمه مكتئبا حزينا لايتحدث مع أي شخص ويكلم نفسه بأستمرار . ص١٠٦
ولا تسألني عن الطفل الصغير معصوب الرأس الذي
سوف تقرأ عنه في بداية الحكاية وتبحث عن نهايته لأنه وصل إلى المجموعة التي كان والده معتقل معهم وأخبروه بالحقيقة المرة وقد عرفت فيما بعد بأنه هاجر من العراق مع شباب طموحين ذوي شهادات لم يحضنها الوطن فراحوا يفتشون في السراب وأرض الغرباء . ص١٠٨
فحقق لنا خطاب الرواية عبر متوالية حبكتها المتشظية في فضاءات القمع ،
ان مايفقده شخوصها ليس فيض الإنتماء المكاني المشوه والمضبب وانما قيمة الحرية باعتبارها أس الوجود ، وهوية مشخصاته التي تجتاز محنة وجودها بقرف ، فشخصية موسى الأسمر من الشخصيات المؤثرة التي تعاني من واقع مضاعف مضغوط نفسيا ووجدانيا ، بسبب حسيتها وثقافتها ووعيها، وكذلك باقي الشخصيات في الرواية لم يكن وجودها ذهنيا ورقيا وانما كانت شخصيات حسية ، دافقة بحضورها السلبي المقيد بالسجن والمعاناة ، فهي واضحة المعالم الوجودية والمصيرية ، وان قدمها الروائي عبر التبئير و المنظور السردي للبطل موسى الأسمر الذي قدم لنا الشخصيات المحايثة له وجودا ومعاناة وفضاءات مكبلة بالقيود البشرية ، القامعة للمصير عبر رؤية السارد العليم موسى الأسمر الذي اختزل حجم المعاناة ومصادرة الحريات عبر زوايا نظر متعددة المحاور فكان وجودة يشكل برصد الأبعاد العمودية والأفقية ، في الحيز المكاني ، وكأنها تصور بعدة كاميرات ومن ثلاث زوايا ، اذا أضفنا العين الجوانية ، كاميرا أخرى هي العين الثالثة للسارد العليم تغور نحو العمق النفسي لباقي الشخصيات بل حتى لشخصيته البطل ذاته .
تظهير سردي .. يا انا ابعد عنك
تلك الهواجس المخيفة سوف امسك ظلي في ساحة الألم الضيقة لن أبرحها حتى يظهر لي محارب من بين ثنايا التاريخ ة مقلد بدرع العدالة على ظهر دابة يحمل بيده عصا موسى ومعجزة عيسى وحكمة محمد يلين له الحديد كداود ويكلم الطير كسليمان ويهشم الأصنام كإبراهيم ويمسح على رؤوس الفقراء وينصف بين العباد كعلي بن أبي طالب ،
يا أنا لاتقول لي انتهى زمانهم ، يا انا لم أرى وجهي منذ فترة طويلة ألا تخبرني عن التجاعيد والبقع السوداء التي تسللت لي وأنا قابع في الحفرة . ص٩٩ .
حيث تحقق الرواية المخطوطة ماتم سرده من يوميات النفي والقيود فهي حكاية المعاناة الموثقة كتابة وان تشظت شخصياتها عبر بوابات الموت والإنتحار والإفراج عن بعضها فهي الرواية الممهورة بتعدد الخسارات وتوالي المواجع فموسى الذي خسر وجود الوالدة الحزينة الباكية على ولدها بين القضبان ، والفتى اليتيم الباحث عن والده السجين المخنوق في المنافي ، وأثير السجين المنتحر الذي لم تترك له النزاعات العشائرية بيتا ولا أبا ولا مصيرا ، فإختار النهاية الكابوسية منتحرا خلاصا وملاذا من توالي العتمات ، والشاب السجين محمود الباحث عن ملاذات الوجد والغرام عن أنثى يبادلها نظرات الحب في أيام الزيارات من قبل الأهالي للمساجين ، ولكنه يصدم بكون فتاته التي ينتظر ويترقب على مدى أشهر ، كانت خرساء بكماء ، فيحتضن أوجاعه ويتبادل الضجر مع صمت الجدران الداكنة بالأسى والشكوى . وبهذا فقد أوصل الروائي غانم عمران عبر اللغة الواضحة المكتنزة بهلوسات الفجيعة ، ومخاضات القرف اليومي اللزج من المساجين الفاقدين لزمنيتهم ، لتتجلى من حبكة الرواية الثيمة التي تستبطن الحكي عبر مطلب الحرية الأسمى ، الذي يحقق الإنسان عبرها وجوده وكينونته ومدى فاعلية انتماء للوجود والتاريخ .