recent
أخبار ساخنة

طوبوفيليا الخطاب النصي في (وأصَفِفُ الموتَ في أهدابِي) للشاعر انمار كامل حسين، قراءة نقدية حول مجموعتي الشعرية بقلم د. امل الغزالي والمنشور في ثقافية جريدة النهار.

طوبوفيليا الخطاب النصي في (وأصَفِفُ الموتَ في أهدابِي) للشاعر انمار كامل حسين، 
قراءة نقدية حول مجموعتي الشعرية بقلم د. امل الغزالي والمنشور في ثقافية جريدة النهار. شكراً لهذه القراءة الواعية والمتفردة 

      تترسخ الاماكن الحميمية في ذات الانسان وتصيبه بحمى الحنين فتفيض ذاكرته بتأثيث متعال لأماكن كان قد شعر فيها بجمال الحياة وامانها وتأخذ احيانا طابع العشق وهو ما اطلق عليه ( باشلار) مصطلح ( الطوبوفيليا) الذي عرف على انه حب المكان او محبة المكان ، يمتلك فيه المكان ذاكرة انتقائية اصطفائية تشبه إلى حد كبير الغربال، فهي تبقي فقط على ما يسعدها ويذكرها بأحداث لها أثر في شخصية صاحبها وتهمل الهامشي والسطحي، وقد تأرجحت الاماكن بذاكرة تكاد تسمع حواريتها بين هذا النص وذاك بخطاب حميمي تألق فيه الشاعر العراقي انمار كامل حسين بدءا من العنوان ( واصفف الموت في اهدابي ) الذي يحمل مكانا خياليا (الاهداب) اذ عدٌَها  مكانا مغلقا يحفظ فيه الموت بشكل صفوف كخزانة الملابس ، بدلالة سعة انتشار وفوضوية الموت التي  يرزمها الشاعر من ساحة الوطن ومن قلوب اهله المنقوعة بحبر الحداد علٌَ اهداب الشاعر تحملها عنهم  .
      أثار الشاعر فينا احساسا بالانتماء وآخر بالزمن من خلال اشارته لمكان طالما حملته الكثير من صفحات التأريخ  ، (بابل) هنا تعني الزمان ،الأصالة ،الحضارة والمكان الذي يملأ المخيلة بذاكرة لا يمكن ان تخضع للنسيان ، اذ اخذه الحنين الى مكان يمثل تأريخ وحضارة بلاده ، و ( الجنائن المعلقة ) احدى عجائب الدنيا بفضاء زماني لا نهائي، فكانت ذاكرة المكان لديه واقعاً ورمزاً  وكياناً مبنياً في المخيلة له ذاكرته الخاصة وصلته القديمة ، صلة خاضعة للمعطيات الحسية وحسب، ولا مجال إطلاقاً فيها للتجربة الذهنية .

( انا عاشق كوثي
من ملح بابل نقشت طينتي
اتلو آيات الجمال في انجيل عشقنا
منذ اول سطور حب سومري
اقطف الجنائن المعلقة 
في معصميك) ص٥٩
      جسد  الشاعر  حنينه للمكان العيني الذي يمتد عليه الواقع ( وادي السلام ) لانه المكان الحميمي الذي تحوي ترتبه ماتبقى من ذكريات الفقيد ( فاضل الكرعاوي) واصفا فضائه الاحتفالي بأهازيج متخيلة لموتى يلوحون  بالاكفان احتفاءا بوصوله الى عالمهم القائم في مكان غير مادي او ملموس ، مكان لانهائي قابل للانقسام إلى ما لا نهاية بذاكرة ذات افق واسع  ، كذلك ( رأس الربان)  مكان متصور متوالي الانقسام يثير ذاكرة الشاعر لانه يضم ذكرى فقدان عشيقته التي افقدته الرغبة بالعودة من منفاه،  مكانا يشعر به فالواقع عنده نمو كلي غير منقسم ، ابتكار متدرج ، ديمومة ، وما يشعر به مكاناً يمتد عليه ، وله زماناً يدوم فيه الى ما لانهاية.

(هناك في وادي السلام
حيث تتعالى اهازيج الموتى
فرحين بقدومك
ملوحين بأكفان انيقة معطرة) ص ١٠٩ 

(وما من عشيقة في الضفة الاخرى
تدور في رأس الربان 
ترغمه على العودة ناجيا) ص١٢
 
       ثم يعيده الحنين الى ذاكرة المكان المتخيل  والمرتبط بالواقع تربة الذين رحلوا عنه وكما يصفها الشاعر  (باصات الموت فاخرة.) ليجمع بين المكان المتخيل والواقعي في وليمة ألم فاخرة يتذوق فيها صمت صديقه الذي انسل تحت المكان الواقعي ( الارض) والرغبة الخائبة في نزهة اخرى ( حياة اخرى ) خارج الجسد او الحياة ذاتها التي تمثل مكانا خياليا لم يتحسسه الشاعر او يراه لكنه يحمل ذكرياته مع ذلك  الصديق ليكون المكان بمثابة وصفا جميلا لعلاقته به ، كذلك فأنه يتذكر الحبيبة المندسة في ( القلب ) الذي يمثل مكانا متخيلا في فضاء هادىء وساكن يبدو بعيدا عن الشاعر  بدلالة دعوته لها ان تأتي ليعم الفضاء المكاني باصوات الرصاص والعصيان فضلا عن تبادل الحب تحت ( نصب الحرية ) ذلك المكان الواقعي وذاكرته الثورية المتقدة في الذهن ، ويعود الشاعر ليجمع بين ذاكرة مكانين واقعيين تواجد فيهما الاول ( رحم الام ) والثاني ( الوطن ) الاول يحمل ذاكرة تجذب اطراف جسده بأمنيات العودة لما يحمله من أمان والثاني ينفر منه الشاعر لفقدانه الذاكرة الحميمية وظهوره بمظهر المكان الموحش الذي لا يحمل من الذكريات سوى الوجع ، فهذه الصلة  بالمكان سواء أكان في شكل بيئة طبيعية أو في بيئة خيالية من صنعه هو فهي تعبر عن صلات قربى عبر الصلة والتفاعل مع تضاريس المكان وسماته الجغرافية والطبيعة ، وهذا الترابط  يعبر عن الإنسان وباقي الموجودات .

( وما من متسع لنزهة اخرى
خارج اجسادنا الهلامية
او خارج الحياة مثلا ) ص٤٧ 

(وصديقي الساذج لم يعد يطرح الاسئلة
فقد سال تحت الارض 
قبل ان يدافع عنها ) ص٥٥

( ايتها المندسة في قلبي
تعالي
نعلن ثورتنا
عصياننا المأجور
رغم رصاصهم
نتبادل القبل
المسيلة للدموع
تحت نصب الحرية)   ص٢٨

(من يقهقه بصوت اعمى ؟ 
وانا اخرج من رحم امي المزعوم ) ص٧

 (اي غريزة حمقاء 
قذفتني الى هنا 
اعيدوني ثانية ...
اعيدوني) ص٩

      أتخذ الشاعر ذاكرته المكانية من خلال المعنى  الثقافي  ، وفي كل الأحوال تتوسط القيم الثقافية العلاقة بين الإنسان والمجتمع الإنساني من جانب وبين البيئة الفيزيقية أو المكان من جانب آخر ، ذاكرة تحت الوسادة والمذياع واصوات الحرب الصاخبة بالموت ذاكرة متخمة برغيف الام الملتهب من سخونة التنور وبعض من الارغفة وهي تملأ بطون يتامى الجارة والمتسول حين يقاسم الشاعر نقوده متسكعا في الطرقات كذلك ( فلكة صفي الدين ) بكل ما يحمله هذا المكان من ذاكرة حميمية و احداث كثيرة اكتنزت بها كل تلك الامكنة.

(يخيفني 
صوت الدفوف
ودبيب كث الشعر 
دمام حارتنا القديمة
وهو يوقظ
شهوة الصائمين
في شهرهم المقدس) ص٩٨ 

(مذياع والدي القديم تحت الوسادة 
موجاته انحرفت عن مسارها
وعن مبادئها
تنقل عاجلا تلو الآخر
لتفيض سماعاته الصدئة دماء) ص ١٠٦ 

( مازلت ادور بلا هوادة
حول ( فلكة ) صفي الدين
حول ساحته المنسية
ابحث عن دلائل الاعجاز
في ظله الذي نما مؤخرا
وصار بابا خلفيا للحياة)  ص ١٧

      ربط الشاعر  الطبيعة الحسية والمادية للمكان وحجمه وحدوده وهويته بحاجات الإنسان التي ترتبط مقاييسها وتكوينها وحدود مدياتها بتغير النضج الادراكي ، والعقلي للإنسان ،فالارض هي المكان الذي يثير فينا سلوكيات مضت في تضاد بين سوء العلاقة التي تربطنا بها ( نبصق عليها ) ، ( نغرس فيها ذنوبنا ) لتتكاثر ذنوب البشر في شراهة حتى رحيله الاخير،   وبتطور طبيعة علاقته وتفاعله بالمحيط الطبيعي والاجتماعي تكون ذاكرة المكان كمرثية لرحيل الاصدقاء الذين تركونا وحيدين ( في الأريكة الفارغة امامي ) في المقهى الذي جمعنا بذكراهم ذات يوم وشاهد المكان معلق مصلوب (ام كلثوم وهي تصلب في جدار المقهى) ، فكما للأمكنة الواقعية ذاكرة كذلك للمكان الافتراضي ذاكرة يعج بها الشاعر حين افترض ان لمخيلته طريقا تسير عليه معشوقته فيتوه عن درب بيته الذي نمى وكبر فيه وبذلك فأن ذاكرة المكان الافتراضي هنا تلغي ذاكرة الواقعي بفضاء ضبابي لم يذكر الشاعر معلومة عنه ، كذلك فالأمكنة لاتثير  الذكريات فحسب بل هي ذاتها خلائق سواكن وان كانت غنية بالحيوية وانما الذكرى تثار حين يكون للمكان وجود حياتي ، إن الحديث عن العلاقة التي تربط مابين الذاكرة والمكان، يقودنا للكشف عن مدى الترابط والتواشج بينهما؛ لأن أحدهما متمم للآخر إن لم يكن جزءا منه.

(رحيمة هي الارض
نبصق عليها
ندب عليها
كقمل اسود لعين
نغرس فيها ذنوبنا
خطايانا
شواهد قبورنا
فتثمر وتثمر 
حتى حصادنا الاخير) ص٢٣

(ام كلثوم 
وهي تصلب في جدار المقهى
وجوه الجالسين
في الاريكة الفارغة امامي
المصباح الذي افل نوره ) في زاوية المقهى ص ٢٤

( ليس ذنبي 
ان اضل الطريق
هو بيتنا يهرب
يتوارى بين الأزقة
حيث تمرين سيرا على الاقدام
في مخيلتي) ص٦٤

       بدا المكان لدى الشاعر  دالاً على المتغيرات الإنسانية ومعبراً عنها ، فحالة الهيام هنا تعبر عنها  ذاكرة المكان الفردوسي والحنين الى  الهطول في كنف الحبيبة بعد حرمان دام لزمن بعيد فهي مرآة تظهر الأفعال والدوافع والاتجاهات والأنماط السلوكية ، سجل الشاعر من خلالها حالة انسانية تلازم للوجود البشري فأصبح المكان لديه أداة لتسجيل جميع المتغيرات ومقياساً لها ، كذلك لجوء المحب لمعطف حبيبته ليصبح مكانا آمنا له ووطنا يلجأ اليه رغم انها ليست له اجتماعيا فهي كالأرض التي احتلها مستعمر او اشتراها لحسابه،  ليؤكد ان للمكان صلة موضوعية بتركيب المجتمع وسياق العلاقات الاجتماعية ، حيث تطيع التأثيرات المكانية سلوكيات الشخصيات ، فدوران المكان الواقعي ( الارض) يثير في الشاعر ذاكرة دورانه حول ظله ذلك الدوران المعتوه الذي لا نهاية له والذي يرمز لمعاناته اللامتناهية على وجه البسيطة ، فالذاكرة المكانية هنا تتبع سلوك الشخصية ذاتها.

(هلا تغويني ببعض تفاحك الاسمر
اصليه قبلتين في محرابي
لنهوي معا في الفردوس الاعلى
هناك حيث يسجد لي حنيني
المغيب الف عشق عن الهطول) ص ٤٢

(لا وطن 
تسكنه الريح 
الا انت 
لاجىء انا في منفاك
في ارضك المحتلة 
منذ غمزتين ونيف
البث هناك 
في معطفك الزهري)ص٥٨

( مقفرة ارضي
حول اصنام تدور
وحول ظلي
ادور انا
كمعتوه) ص٨
      برع الشاعر انمار كامل حسين  في رسم المكان بصورة يكاد صوت ذاكرتها ينخر فينا جدران النسيان في مجموعته الشعرية ( واصفف الموت في اهدابي) ، اذ لم يستخدم الطوبوفيليا  ( ذاكرة المكان )  من باب المجاز البحت فوجود المكان في ذاكرة الإنسان لم يأت لديه من فراغ، بل جاء نتيجة علاقة قائمة على الحضور والتعايش معا ، لتترك ذاكرة  المكان اطراسا في مدونة الوقائع والاحداث والافعال لذاكرة الحيز المكاني المادي والمعنوي والافتراضي التي يستحيل تصور وجوده من دونها ، فالمكان لديه ليس حيزا ماديا وحسب بل انه يمتلك ذاكرة تؤثث حياتنا بمكتنزاتها الماضية وتأثيراتها على سلوكياتنا بل وحياتنا برمتها و لايمكن  إغفالها أو تجاهلها أو تناسيها .

google-playkhamsatmostaqltradent