مدخلان لدراسة ثقافة الحلم وثقافة الانتظار في(عصاي خرساء ودليلي أعمى) للشاعر جبار الكواز على ثقافية جريدة (الصباح) الغراء نشر الجزء الاول يوم الاربعاء15 ايلول2021 واليوم ٦ /10 نشر الجزء الثاني
وهي دراسة نقدية تنتمي لسلسة دراسات نقدية اتناول فيها المنجز الشعري العراقي المعاصر بمنهجية جديدة تأخذ من الشعر والنقد للدخول الى فضاء الشعراء الخفي ومحاولة رسمه
البحث عن كلمة
مدخلان لقراءة ثقافة الحلم في نصوص (عصاي خرساء...ودليلي أعمى) للشاعر جبّار الكوّاز
د. أحمد جاسم الخيّال
عوالم الشعراء متداخلة وكثيفة، وهي كالمدن العتيقة تحتفظ بأسرارها ومن الصعب فكّ رموزها ووصف مرجعيّاتها الثقافية المتنوّعة، وعالم الشاعر الكوّاز الشعري مختلف ومتشعّب ومتعب في تتبّع إرهاصاته الغيبيّة، لأنه ببساطة عالم خفي مسكونٌ بالحلم وبلغةٍ شفافة غير قابلة للتفسير بسهولة، لقد أنهى الكوّاز عمره يبحث عن كلمة، عن غواية المعنى غير القابل للرصد، مؤثّثاً كلّ ذلك برؤيا لا مرئية تقوده إلى حيث يرى كلّ شيء خارج بصيرة اللغة ليدوّن (معنى) الغياب نكايةً بالحضور السيسيولوجي للوجود.
الشعر هو الوجود الآخر للشاعر، واستطاع الكوّاز من خلال بحثه طيلة رحلته من الواقع إلى الشعر أن يخلق فضاءه الخاص، وكان الحلم هو المادة المثالية التي منها بنى هذا الوجود الموازي ليعيش مترفاً بالحسّ والغرابة والجنون، والأهم أنه لم يتوقّف يوما ما عند حدود معينة، إنما ما زال دائم البحث حاملاً على كتفه أغاني الراعي وفي جيبه ناي الغواية وليس معه سوى ظلّه وهو يحوك البرق والغيم والسعادة والأسمال في فراغ الأحلام المؤثثة بالفراغ.
لقد أيقن الكوّاز أنه سيبقى رهين البحث عن كلمته المفقودة، فأجمع كلّ قوى عقله وقلبه ليشدّ الرحال لها في أطول رحلة نفسية لشاعر معاصر، رحلة لا تنفد دلالاتها لأنها تقمّصت كل شيء فيه، يقول:
((أبحث عن كلمة
لم أجدها وسط حروف الفوضى
وحروب العشّاق
إلا بنصٍّ غائبٍ بين الأسطر))
هذا التماهي الشديد بين الشاعر وبين اللغة هو البؤرة المؤثِّرة في صياغة واقعية الحلم في قصائده، وتعزّز هذه الرؤية لدراسة ثقافة الحلم عند الشاعر والبحث عنها تحت نصوصه لبيان مرجعياتها الثقافية التي أسّست لهذا الوجود الشعري الفريد، ففي النهاية ((لا وجود لحلم دون واقع ينطلق منه ويحاول تجاوزه والتخلّص منه)) .
مدخل الأسئلة.
الاسئلة محور مهم من محاور أي تجربة شعرية، وهي تختلف باختلاف الشعراء ورغبتهم بالمعرفة الغائبة، لذلك حين يتعب الشاعر من الصراخ في وجه الوجود ترتدّ عليه أسئلته لينكفئ عليها فتصبح جزءاً من عالمه الخاص ونبعاً من رؤاه الشعرية، ثمّ تصبح ثقافة ثابتة وأداة تعبيرية لا يريد الشاعر من خلالها جواباً، إنما يتحدّث من خلالها عن افتراضاتها لعالم يتمنّى أن يعيشه.
وكانت أسئلة الكوّاز الشعرية تعبيراً عن حلُمه ونفوذاً إلى عالمه المثالي وسرّاً من أسرار شعريته العالية، يقول:
((ما زلتُ أبحث عن خيط رمالٍ في بئر أسئلتي
أسئلتي صامتة
لا أحد يشير إليها بالكلام
وهي تتمرّى بأفول الآخرين
وبوهم جمالها
حين يزدحم الذباب على شفاه العسل
كيف أمسك صمتي
وهو لا يمت بصلة إلى همس الأجراس؟
أجراس كنيسة مسبيّة
أم أجراس قلب أوشك أن تخذله الحبال؟!
الحبال التي أولمتها الفئران
الفئران التي تطارد قططنا في العلن
العلن الذي دحره سراب القطا في الحقول
الحقول التي أمحلت
الصمت قفل ضفافها
وضفافها خرس في ضجّة الرمال
من لي بصمتٍ لا يُشابه الفجر؟!
ومن لي بفجر تفتّق ضوؤه بتثاؤب عمال المساطر؟!))
أسئلة الشاعر لا نهاية لها، كأنها بئر ممتلئة بالماء تروي عطشه في صياغة دهشته إزاء العالم، فبئر الأسئلة ممتلئ لا خيط رمال يُرى في قعره، لكنها أسئلة صامتة إذ لا إجابة لها، قوّة الصمت تأخذه إلى الأفول بعيداً عن فجر يزهر فيه حلُم الانسان، لكنّه صمت صاخب لا يستطيع الإمساك به وسط فوضى تبدّل القيم.
يحاول الكوّاز أن يثير الشكوك برتابة الحياة قدر ما يستطيع من خلال أسئلته الحالمة بوعي يستطيع احتواء لغة الوجود وثوابتها المتغيّرة.
أضحت الأسئلة عكّاز الشاعر ومرجعيّة مهمّة من مرجعيات قصائده وحلمه، وأصبحت رؤيا يرسم بألوانها عالمه الخاص بعيداً الحقول الموحلة.
يستمر بحث الشاعر عن وجوده المفقود في الآخر، ليثير السؤال الذي يتكرّر في أغلب النصوص، وهو جوهر رؤاه الحالمة بمعرفة كنهه، ليقول بمرارة: ((فمن أنا إذن))، هذه الغربة التي تحيط بالشاعر تجعله يعيش داخل دائرة الشك ليلجأ إلى أسئلته محاولاً من خلالها أن يكشف الغموض الذي يغطّي الحياة، يقول:
((ولستُ أنا
أيضًا
من علّمته الأسئلةُ
كم مرّ من وَهَمٍ عليه؟!
وهو يحسب قطارات الموتى
حين ترسل
الألقاب والكنى
إلى تاريخنا المبلّل بالنحيب
فمن أنا إذن؟!))
يتماهى الكوّاز مع أسئلته، ليبدو كلّ ما مرّ به وهماً، فالحياة تأخذ كلّ شيء ليصبح تاريخاً من مآسٍ لا تنتهي، لا ألقاب ولا كنى قادرة على البقاء، والشاعر الرائي يتأمّل ببصيرته هذا الغياب الذي لا مفرّ منه، ليثير سؤالاً وجودياً لم تستطع فراسة الشعر الإجابة عنه، إنه يبحث عن نفسه وسط هذا التحوّل المستمر، ليصرخ بصمت ووجع وخوف من نفاد الأيام بهذه السرعة التي لا تشير إلى شيء، ليعترف اخيراً أنّه ليس هو، يقول:
((ولستُ أنا
كلّ هذا الذي مضى
وما سيكون
فمن أنا
إذن؟!))
الحلُم عند الشاعر مشروع وجود، وثقافة أمينة تمنحه القدرة على الاستمرار في الحياة، لذا هو يبحث داخل روحه عن أجوبة، أو عنها، يترك فلسفة الرغبة لتشكّلها على هيئة حلُم، ليستمرّ في إيقاد أسئلته الحائرة أمام هذا العالم، يقول:
((وحين أرنو إلى موقد روحي
أسأل اللهب
أسأل الأمس
أسأل الفراغ
أسأل الأوراق البيض
أسأل الأغاني المنسيّة
أسأل الرياح
أسأل الكتب الصفر
أسأل الظلام
أسأل النقاط في الحروف
أسأل حروف العلّة
أسأل القلم
أسأل القرطاس
أسأل الطرس
أسأل السيف
أسأل الرقبة
أسأل العربة
أسأل الحصان
وأسأل العتبة
أأنت هي؟!
لم يكن ثمّة (هي)
بل
هي التي لن تشرق إلا
في مروح الأحلام
دلّني
على
رجلٍ
رجلٍ بلا أحلام
لأسأله:
أين هي؟ ))
يأخذنا الشاعر بإصرار إلى تهويماته البعيدة لنمارس معه البحث عنها، الأسئلة لا تكفي لتجيب، ولا الوعي بأنها غير موجودة، إنها حلم داخل اللغة يفيض مثل نهر يسقي ترقّبنا، لكن لا أحد يعلم ولا حتى الشاعر متى يأتي الذي بلا أحلام ليدلّنا علينا.
مدخل الانتظار
الشاعر الكواز شاعرٌ منتظِر، يقيم طقوس انتظاره داخل القصيدة، ويفتح لنا عوالم شعريّته السائلة بلغة مُبصرة لا مرئية تنمو باستمرار وتتوهّج وتتماهى مع اللامرئي من الأفكار والأحاسيس، والانتظار قبس وجودي ومحاكاة للمفقود ورثاء للنفس في قصائده، فنادراً ما تجد قصيدة للكواز تنأى عن محاورة الانتظار، وهذه الثيمة الشعرية ليست عابرة إنما هي متأصلة في تجربة الشاعر، وهي مرجعيّة ثابتة من مرجعيات الحلُم في قصائده.
يقول:
((أنا من قبيلة بكائين
كيف أُمكّنك من حوار دموعي؟!
وهي بريئة من انتظارك
كيف هو انتظاري لك؟!
ظلالي لا تقوى على الانتظار
الشمس تنكّرت لاسمي القمري
فزادت يأسي حيرةً))
الشاعر في حيرته يبقى محاوراً انتظار الذي لن يأتي، هناك في قلبه وجود مثالي لا يمكن أن يكون في الواقع، وهو دائماً يناشد هذا الوجود بالحضور، يتطلّع إليه ويستمدّ منه غليانه الشعري، وأيضاً بكاؤه المستدام حتّى أصبح من البكّائين، ويحاور دموعه من وراء الحجب حلُم الرغبة بالوجود، رغبة الشاعر بالتكامل خارج أسوار وقيود الممكن الرتيب، فعالمه الذي يبحث عنه لا يشبه هذا العالم الذي يعيشه، لذا هو يستأنس بالحوار معه، ثم يستأنف الكلام بلغة شعرية متوهّجة وحقيقيّة تملأ نفسه بيقين التواصل الذي ينتظره: (كيف هو انتظاري لك؟!)، استفهام عرفاني شديد الحساسية كأنه يشعر بالتقصير من انتظاره، كأنه في حضرة الربّ، لذا أراد أن يطمئن قلبه بأن انتظاره المقدّس قد حقّق الرضا لقلب محبوبه رغم ألم الانتظار وقسوته، وهو غاية ما يريده الشاعر من انتظاره أن يكون لائقاً بالحبيب، وهذه الخشية منحت النص دلالات روحانية صادقة تكشف عن تجربة عميقة صادقة.
قلق الشاعر الكواز لا ينتهي، وببصيرة أعمى تماهى في الغياب عن الواقع ليرسم حلمه على جدار غير مرئي إلا لعينيه الذابلتين من الأسى، فالحلُم هو المقدّس وهو الذي يجب أن يكون بديلاً للواقع المرير، فابتدع عالمه خاص مبتعداً عن نشوز الحياة وسخريتها وعبثيتها، وقد هيّأ كل شيء من أجل البقاء على قيد هذا الحلم بعد موته، يقول:
((لقد أخبرت أمي:
- أن تدسّ مفتاح قبري في كفني
- أن تهيّأ لي عدّة الكتابة
- أن ترسم صورتك على جدار كهفي
- أن تدهنني بدهان عاشقة
- أن تبكي على حسرتي بصمت
(الصراخ لا يليق بقتلى الحب)
لا تنسني
فأنا في انتظارك كلّ فجر
هاتفي وسماعتا أذني وقلمي وأوراقي
لقد نسي الدفان أن يغلق قبري
بشمع أدعيته الكبرى
(عفوا تناسى بعد رجاء فاختة المقبرة)
سأنتظرك))
الشاعر يتماهى مع لغته وأدواته الأسلوبية ليصنع لنا ميثولوجيا خاصة به، فهو يتجاوز فكرة الموت ليؤثث قبره محطّة انتظار، كأن حياته لا تكفي لانتظاره المقدّس، فأوصى أمّه أن تعدّ كل شيء من أجل أن لا ينسى ويبقى منتظراً كلّ فجر اطلالتها، حتى أشيائه البسيطة ويوميّاته الهامشية تمارس طقوس الانتظار معه.
فكرة الانتظار من الركائز الدلالية المهيمنة في مجموعة الشاعر، وهو مشدود معها نفسيًا ومتعلّق بها وجوديًا، لتكون مرجعًا مهما لفهم الشاعر وفهم آليات اشتغاله الشعرية، وهي ترشدنا إلى أن الشاعر قد عانى من الفقد وما زال تكوينه العاطفي يشتدّ نتيجة ذلك، وأنه يحلم بواقع مثالي تختفي فيه الحدود والقيود الفيزيائية التي تصطدم برؤيا الشاعر الهائمة المتجاوزة لها، فالانتظار بوصفه فكرة عاطفية تحوّل الى انتظار عام يأمل الشاعر أن يمنح الانسان تجلّيه للوصول إلى الحقيقة والتسامي المطلوب، يتجلّى ذلك في قصيدته:
((حضورك أفق أيتمته النجوم
موتك حياة
ظلالك ضوء
رجسك وضوء
فمن يفرك روحي لتسيل عند بابك؟
أنت أغنية حزن
ورغيف صلاة
فكيف أخرج منّي إليك؟
حائر أنا
أيصير صمتي دمعًا لمرقاك؟
أوهامي ما زلت
مستغرقًا بتلفّتها
كي أجد ضوءاً وأمسك ظلّي به)) .
إن محاكاة الشاعر لهذا الحضور المؤجّل يشتدّ لأنه يمثّل الحياة والنور والطهارة، وهو في انتظاره ينصهر أمام هذه الباب التي ترمز للخلاص من كل ما هو وهم وماديّ، فروح الشاعر جائعة لرغيف يأخذها إلى مآلها الحقيقي ليخرج من حيرته وشكوكه وعطشه، وهو يتساءل بعد أن تعب من الانتظار عن كيفية الخروج من قيود الجسد ليتحرّر، لذا صاغ استفهامه معبّراً عن حيرته ورغبته ((فكيف أخرج منّي إليك؟).
لم يقف الكواز مكتفيًا بانتظاره، بل حثّ نفسه على السعي والبحث عن طريق توصله للضوء، فهو قد يأس من صمته ودمعه وأوهامه وعليه أن يجد نفسه ويزرع ظلّه في بهاء ذلك الضوء الفسيح ليحقّق وجوده.
فالحلُم من أهم الوثائق السريّة في مدوّنات الشعراء المعاصرين، ويعود ذلك لأسباب كثيرة، من أهمّها غربة الشاعر عن واقعه التي يتجّه نحو الماديّة بشكلٍ غير مسبوق، لذا فالشاعر يبقى صوت الضوء في هذه المسافات الغافلة عن الحقيقة والمنغمسة بالوهم والميكانيكية بعيداً عن الروح وطاقتها.
وقد استطاع الشاعر بإحساسه الشفيف أن يخترق كثافة العزلة محاولاً النجاة من طوق البقاء الساكن ليرسم لنا عالمه المثالي مدوِّنا حلُمه من خلال مدخلي الأسئلة والانتظار، وهناك مداخل أخرى لم يسعني أن أدخل لها تكشف حقيقةً عن تجربة الكواز في بناء شعريته العالية التي تدعو للحبّ والسلام، فدراسة مرجعيات ثقافة الحلم لها أثرها في الكشف عن تجربة الشاعر وعن أهم سماتها الدلالية والوجودية، وبذلك تمنحنا فرصة قراءته وفهمه ومحاورة العشب الأخضر في عالمه المتخيَّل بعيداً عن غبار الواقع.