تعاورته الخيبات
د . فوزي الطائي
لم تكن هناك قصيدة في داخل المجموعة الشعرية الصادرة حديثاً للشاعر جبار الكوّاز تحمل اسم المجموعة (فوق غابة محترقة) وهذا ما يدعونا أن نتوقع أن القصائد كلها تحمل هذا المعنى بشكل أو بآخر .
والحرائق كثيرة : تبدأ من احتراق النفس حتى تصبح كومة من رماد , ولا نبحث هنا عن السبب , فالأسباب كثيرة وجيهة وغير وجيهة , ثم بعد ذلك الحرائق العراقية التي استعرت في المدة الأخيرة فأكلت التراب وما تبقى من آمال مرتقبة فضلاً عن الأخضر واليابس , لدواعٍ سياسية أو غير سياسية .
أما حريق الغابة التي أراد الشاعر أن تكون عنواناً لمجموعته فلها معانٍ رمزية , نرى أنها غير محصورة في قلب الشاعر , ونحن كقراء نملك مفاتيح أبوابها الموصدة حتى بعد الحريق , فهذه الغابة تحمل حياة كاملة من الأشجار المليئة بالأثمار والأفياء والعنفوان والجمال والزهور والأعطار والسواقي والأنهار . إذاً احتراق هذه الغابة هو في حد ذاته انهيار حياة وتداعي أمة وتراكم خيبات من الأمل : (أشق طريقي بساقين احترقتا / تحاذران نيران صديدهم / مشاعلنا تسقي عثراتي بكفّ / عبرتُ النهر دونما خوف / وقاب قوسين أو أدنى / كنت أشم الموت) ص5/6 , إذاً الشاعر لم يكن ببعيد عن هذه الفاجعة , بل كان في صميمها ووسط لهيبها , وماذا عساه أن يفعل والنار طالت ساقيه , ورائحة الموت بدأت تزكم أنفه , وهذا يسجل لنا دلالة واضحة أن هذه الغابة المحترقة هي غابته في المعنى الحقيقي والاعتباري , ووجوده فيها ليس من باب المصادفة أو البطر أو النزهة , بل كان حتماً مقتضياً , لذا أراد أن يتحمل نصيبه من هذا العناء الشاق المبارك الذي يفرضه حسه الوطني الوثاب : (وبغداد التي أثكلتها القنابل في ليلة عرسها / وما زالت تتكحل بالشواظ بين الرصافة والجسر / فصار كحل مهاها متاريس أغانٍ / رغم سكاكينهم الصدئة / كان المهذرمون ذوو اللحى / يسرقون الشوارع ومن فيها) ص7 .
هكذا يأتي الوصف الشاعري للهيب هذه الغابة المحترقة وهكذا تُسمع أصوات تدعو للحياة , وسط صراخ ينبعث من ركام هذه الغابة الثكلى , كان الشامتون يقفون على رأس منارة عالية يقرأون دعاء الافتتاح , وبين أيديهم مسبحات سود طويلة يقبل بعضهم بعضاً احتفاءً بما آل إليه هذا الحريق ولا يجدون في أنفسهم غضاضة أن يشمل هذا الحريق ماء دجلة والفرات فهو الآخر مطلوب إليهم لأنهم لم يأكلوا ولم يشربوا قطعاً منه فقد اعتمدوا على ما تحمله العجلات الكبيرة من قناني الماء المستورد من جيران ليس لديهم سوى ينابيع قليلة , ولأنهم في ريبة من أمرهم أن يسهم ماء دجلة والفرات أيضاً في إطفاء ما شب من حرائق في هذه الغابة , فهم لا يريدون لهذه الحرائق أن تنتهي , ولا يريدون أن تبقى حتى زهرة واحدة تلقي بالتحية على أحباب العراق : (أين بغداد ؟! بين يديّ تتوضأ بكوثر فجرها ودماء أبنائها / ركعتان في العشق لا يصح وضوؤهما إلا بالدم) ص8/6 .
و : (المهذرمون لن يذبحوا بغداد فكوثرها يمحو دخانهم ويمحوهم / ويوقظ عنقاءها بشق ظلامهم / بشواظ أرواحنا) ص11 . (والمهذرم) هو الذي يختلط كلامه الفارغ بالباطل وما أكثر المهذرمين في بلادنا المغلوب على أمرها اليوم .
لقد تجاوز الشاعر الرمزية والإيحاء إلى التصريح , وهذا ما يستدعيه الموقف .. نعم إن الشعر ليس من وظيفته التوثيق بقدر ما يصنع حالة من صورة أدبية أو شعرية أو فنية جمالية لها فعل مباشر وأكثر ديمومة من الكلام الاعتيادي , كما أن الحدث الذي يتكلم عنه الشاعر جاءت أهميته من جهات أربع : أولها الوطن المنهوب والمسلوب , وثانيها : تفشي حالة الكذب والتداعي من أكثر رموز قيادية فرضت نفسها عليه بصيغ سياسية أو بصيغ تعسفيه , وثالثها تقادم السنين وتراكمها من دونما طائل أو تغيير يلوح في الأفق , ورابعها : أصبح مرتعاً للمجرمين والطامعين . مما جعل الشاعر أن يلم بأطراف كل ذلك وينخرط في ثورةٍ شعبيةٍ شبابيةٍ عارمة لتجاوز هذا الوضع المريض والخروج من النفق المظلم إلى فضاء البناء والإعمار وإصلاح حال الناس .
وموقف الشاعر هنا كما نفهم من معاني قصائده ليس موقف المتفرج أو الإعلامي الناقل لصورة الحدث , بل هو الصوت القوي والشاهد الذي رأى كل شيء , هي إذاً صرخة يطلقها في آذان الناس , مما جعل منه أن يلعب دور القيادي وليس دور الواعظ والمرشد والخطابي , هو في معترك ميداني ملتهب , قد تحترق فيه قصائده , أصابعه , أحلامه , ولكن هدفه الأسمى أن ترتفع راية الوطن وهي تخفق في سماء صافية , بعيدة عن كل عاصفةٍ عاتية , أو مهذرمات مكرورة فاسدة بالية , ومادامت روح الشباب المتفجرة والطامحة إلى إشراقات يوم جديد تشرق فيه الشمس مرتين باقية .
ولابد من هذه الروح المليئة بكل هدف مشروع أن تفتح باباً يلج منه ألوف المنتفضين إلى درب مستقيم للخلاص من براثن دولة عاقر فرسانها مهذرمون لا يُنتظر منهم ولادات جديدة في بلادٍ يبس فيها الزرع وجف الضرع : (في محاريب الأمراء والملوك / والجند الانكشاريين / وحراس الإمبراطوريات المخصيين / الذين لم يدركوا طعم الخصاء / إلاّ في إجازاتهم السنوية / حين اكتشفت نساؤهم / إن عقود الخصاء / لم تبتكر شيئاً في رجولتهم / هجرتهم في الفراش) ص16/17 , و(زليتبنوس) في نظر الشاعر ليست مدينة على خريطة الرمال ولكنها مدينة على خريطة البحر لم تشأ أن تفتح عينيها على أفق وليد , وما كان يراها إلا من وراء حجاب , وكانت خطاها وطناً وأناملها قصائد , وبريق عينيها نشيداً وطنياً مؤوداً , هكذا يصرح الشاعر في نظرته المتحسرة وراء بلاد عزيزة , ضاعت ولم تضع , وجمعت قواها ولم تقم , مازالت الحسرة عالقة في فيه , والأمل بادٍ في انكساراته , لكن هي المفارقة التي لا تعرف المهادنة , والسؤال الذي لا يتكرر , ومعادلة الأمس واليوم وغد , موازنة تدفع بتطلع الشاعر وكل أحرار الوطن أن يحملوه فوق أكتافهم وينهضوا في سراة الليل , ومع تباشير الصباح ليؤدوا طقوس المحبة له في ضوء يوم جديد , بعدما شحت الليالي والنهارات بضوئها عليه , ويجيء التوظيف التراثي في شعر الكوّاز بشكل عفوي من دونما إقحام , يبدو أنه منسجم في اكتمال الصورة الشعرية , فكثر التناص القرآني من مثل قوله : (قاب قوسين أو أدنى) ص6 , و: كعرجون قديم . أو الرموز التاريخية من مثل : سنمار ، روما ص23 , في علاقة واضحة بين ما يكتب الشاعر مستمد من الموروث الشعري لأمتنا والإنسانية , وفي رسالة جلية أن شعراءنا هم من أوفى شعراء العالم لأوطانهم وأكثر ارتباطاً بقضايا شعوبهم وتراثهم الأدبي والفكري , على أن شعراء العراق ومنهم الشاعر جبار الكوّاز يقفون اليوم على مفترق الطرق وهم يجدون وطنهم متخلفاً حضارياً , وبعيداً عن أسباب الرقي والتطور الذي يشهده العالم في زمن التحرر والانطلاق والثورات التكنولوجية .
وعموماً فالنفس الشعري عند الكوّاز طويل , في تجربة شعرية قاربت الأربعين عاماً , كتب الشاعر فيها قصائده على الاتجاهات كلها العمودية والحرة وقصيدة النثر والنص المفتوح , وقصائد هذه المجموعة تنتمي إلى هذا الجنس الأخير , وما يقال عن شروط نجاح قصيدة النثر يقال عن النص المفتوح , من صور فنية مبتكرة , وإيقاع داخلي ومساحة واسعة من التأمل الفكري الفلسفي , ومزج بين الظواهر العامة والانطباعات الذاتية , وكان الشاعر الكوّاز ماهراً في تقصي تلك الأبعاد , والإتيان بمائدة شعرية ناضجة كما هو دأبه .
لا نقول يجري ولا أحد يجري معه , لكن هو في الصف الشعري الأول بكل تأكيد .
مرة قلت للشاعر الكوّاز أنك تتطور سريعاً في نصوصك الحديثة , وأرى أنك تحررت كثيراً من كتابة النص – الطلسم – أو ما تقول عنه إنه نص مغلق , وبدأت تكتب نصوصاً مفتوحة يفهمها المثقف ونصف المثقف , مع هذا تترك مفاتيح النص بيد القارئ من باب الاحتياط . وهكذا العافية الشعرية مطلوبة حتى ونحن في زمن تفجير ينابيع العلم والتكنولوجيا , بل ربما تكون الحاجة ماسة للنفس البشرية أن تجلس بعد عناء هذا الزمن وتداعياته الكثيرة للتمتع بجمال الصورة الشعرية والعبارة الرشيقة في حالة تلامس الخيال والمشاعر والأحاسيس الإنسانية , إذاً مازالت الحاجة ماسة إلى أن نقرأ شعراً أو نستمع له : (لم تكن ورقة أخرجتها من سلة القمامة / فحين حاولت أن أعيد تسويتها / بكفيّ / قفزت من بين أصابعي خيول ظمأى / ونساء مسبيات / وغابات تلهث محترقة بالأرواح ..) ص73/74 .
وللنقد المجتمعي حصة في هذه المجموعة ينطلق الشاعر منه من آفاق موروثة وعادات مألوفة بحاجة أن تقتلع جذورها تمهيداً لمسيرة أنصع : (هو آخر العقلاء ظل متباهياً / بالكتب التي عن أبيه ورثها أ وما قرأها يوماً / وظل كعادته يفلسف للفقراء / عن ماهية وجوده فوق كرسي أعرج / وكيف كانت (سقيفة بني ساعدة) ص113 , ودعوة للحياة ونبذ التراخي والكسل , عسى أن يأتي فجراً جديداً على لسان بدوي يمتطي جملاً : (أميرتك التي ذابت في سديم الليل / لم تعد تراك / فأخرج باحثاً عنها في السواقي / والشوارع / والظلال / وحبات المطر) ص127 .
وفي تأملات فلسفية تجعل للحضور معنى , وتحيل المعاني والأفكار إلى طقوس منطقية تنأى بها عن العبثية واللاجدوى إلى محطات فكر مشرقة تستوعب انفعالاتنا النفسية وتؤويها , لاسيما إذا كانت مقتبسة من رموز دينية وأسطورية وتاريخية : (أقلب أوراق أيامي بلا توجس أو اعتماد على فكرة التأجيل / فالتأجيل وثاق للأيام / والأيام الصغرى التي تلتف حولنا لنرتدي مظهرها الزائف المسمى غداً / ما عادت أياماً بل حجارات سجيل / تورث الأرض لعنة (إبليس) / وشك عطيل / وحيرة (أوديب) وجنون قيس) ص130 . ونعود إلى افتتاحيات هذه المجموعة (فوق غابة محترقة) لنكمل مع الشاعر ما بدأه من أناشيد غنائية ومارشات عسكرية وهتافات تنقض فوق أوكار المهذرمين , وتبشر بقدوم يوم جديد .
وأنا أختم هذه السياحة الفكرية والانطباعات السريعة في (فوق غابة محترقة) مجموعة الشاعر العراقي الكبير جبار الكوّاز عرضت في بالي مقولة (ليوتولستوي) : (السعادة أن يكون لديك ثلاثة أشياء , شيء تفعله , وشيء تحبه , وشيء تطمح إليه) , واعتقد إنا وجدنا ما (فعله) الشاعر , فهل كان ما (يحب) هو العراق وما (يطمح) إليه هو غده الجديد المعبأ بالخير والمجد والنور والسلام ؟