recent
أخبار ساخنة

الصورة الفنية ولغة الجمال في اشتغالات الشاعرة العراقية.. ليلى عبد الأمير وهبة محمد صفاء نموذجا .... سعد الساعدي

الصورة الفنية ولغة الجمال في اشتغالات الشاعرة العراقية.. 
ليلى عبد الأمير وهبة محمد صفاء نموذجان
سعد الساعدي

لا تنتهي رسومات المبدع عند حدٍّ معين، أو تقف على لون واحد مهما طال الزمن، أو مضى العمر سريعاً حين ينغمس في تيارات روحه الحالمة محلقاً في فضاءات الخيال، والجمال، ونشر رسالة انسانية يسعى من خلالها أولاً لبذار المحبة، والفرح، والتعلق بأملٍ قادم وفق رؤيته الفلسفية الابداعية سواء كانت فنّاً، أو نصّاً أدبياً تتخلله معاني الامتاع الذاتي والعام كحلقة اتصالية ترابطية متنقلة من جيل الى آخر، وهذا ما يمارسه الشاعر (أو الشاعرة) بالذات بقصائده المنتقاة كتعبير عن حالة يومية يعيشها، سواء مؤلمة تنقل المعاناة، أو سعيدة تسير بفرح مع الحياة، أو كتوثيق تاريخيّ لأشياء لا حصر لها.
في كثير من الأحيان يشتغل الشاعر/الشاعرة على رمز ما، أو رمزية متعددة الأطر تغلف القصائد ظاهرياً، وتتدفق من بين ثنايا كلماتها تلك القصدية التي يبتغيها بتحقيق هدفه بأقصر الطرق، مخترقة ـ عبر الزمان والمكان ـ روح المتلقي تفاعلاً مباشراً بما تحمل من شفافية واضحة اذا ابتعد بها الشاعر عن التعقيد المربك للفهم والتلقي، وبذا تنجح العملية الاتصالية بين المرسل وهو هنا الشاعر، والمتلقي، وتؤدي الرسالة الاعلامية الاتصالية وظيفتها بالشكل الممكن.
في دراسة موسعة جديدة لنا – لعلها ترى النور قريباً- عن عدد كبير من شعراء وشاعرات تم دراستهم بالتفصيل يمكن أن نقف هنا عند شاعرتين بابليتين صبَّ الحزن عليهما غباره الثقيل؛ الشاعرة ليلى عبد الأمير التي ابتليت بفقد زوجها الفنان الشاعر كامل حسين، والشاعرة هبة محمد صفاء التي فارقتها أمها سريعاً؛ فتفجرت الهواجس الحزينة ترسم صور الجمال المثقلة بالألم منهما فأخرجتا نتاجات شعرية كأنها توزيعات (هارمونية) لدراما النص وموسيقاها، بتسلسل يشبه الترقيم المتسلسل، كما لو أن القصائد قصيدة واحدة، بمختلف الأغراض التي كتبت بها، وأنها تتفرع من جديد تحت نفس العنوان الأول على شكل ومضات صغيرة قصيرة قد تطول سطورها، وأعدادها أحياناً. ويُعدّ هذا الأسلوب التقني الفني من مميزات كتابة الشاعرتين كتنكيك بنائي مرصوف الكلمات، اضافة لأسماء الأماكن التي لم تفارقهما:

النص للشاعرة ليلي "ولذْتُ بالمستحيل":

في غفلةِ الظلام
وخلف لحظاتِ الأرقِ المُتأخرة
كان الشوقُ يعصفُ بي
يُناديني بعطشٍ خافت
وصوت لا يسمعه غيري
سرقتُ أوهامَ الفضول
تخفيت بجناحي غيمةٍ
تلاشيت عبر دهاليز العتمة
دسست أُذني هُناك
في عُنقِ الضياع
كانت المدينةُ خائفةً
وهي تضج بصمتٍ هادر
كان الرقادُ جاثماً في أزقتها
بحثتُ وبحثت
فلم أجد غير أشباحٍ مُتطايرة
تحشو نعاس وسادتي
وصفير صمت
قرأت المعوذتين
وشيئاً من الحمد
ترحماً على ما تبقى مني 
من الأماني
من الذعرِ 
عُدتُ أدراجي
عانقت السكون
ولذتُ بالمستحيل.
وسبق مثل ذلك الكثير في مجموعتها الشعرية البكر "ثمة عزف في السماء" الذي أهدته لزوجها الراحل؛ عن كل ذلك اختصرت الشاعرة القول بأنَّ المعاناة في وطنٍ مبتلى نذر مواطنوه أرواحهم من أجله هو محرك للهواجس، جعل شِعرها يشبهها، تتنفسه كالهواء: " أنا امرأة عراقية ابتليت بداء الاحساس النابض منذ طفولتي مما دفعني لممارسة الفن التشكيلي وكتابة الشعر على حدَّ سواء".
في تحليل المضمون لقصائد المجموعة نجد الترابط بين حالتين، أو ظاهرتين من المعنى والجمال واللغة التي كُتبت بها القصائد اعتماداً على الخلفية الاجتماعية للشاعرة، وفلسفتها في الحياة، والفلسفة واضحة النقاء، البعيدة عن التشتت كي لا تشتت قارئها؛ هذا الربط والارتباط جمع حياة سابقة بحياة جديدة؛ الحياة السابقة اتصفت بلون وشكل معينين؛ قد يكون تاريخاً مريراً، أو عسراً مراً لاذعاً، أو ظلماً قاتماً بما يتخلله من سعادة في ظل اوضاع نفسية عقيمة طالت الجميع، والحياة الجديدة هي العشق المذبوح وقصيدة رثاء طويلة التي هي بؤرة تظهر وتختفي أحياناً في جميع نصوص مجموعتها، ومنها انطلقت ليلى عبد الأمير في ترجمتها لواقعها بأسلوبيتها الكتابية الخاصة، مثلما فعلت الشاعرة هبة محمد صفاء المكتنزة بالأحزان؛ وهي اشارة لابد منها، يتصف بها الكثير من الشعراء العراقيين كعلامة فارقة في أشعارهم، والدوافع شتى!
النص الذي بين أيدينا للشاعرة هبة يحمل الكثير من المعاني والبؤر القافزة بدلالاتها.. نقرأ النص ونحلل ولو جزئياً:

النص بعنوان "وعود الأبدية":

وعودُ الأبدية
هرطقةُ مخمورٍ،
بالأمسِ حدثني جدارٌ
عن أحدِها،
كان هناك يحتسي
ثمالةَ خيبةٍ
ويدخنُ ما تيسر
من بيوتِ عنكبوتٍ
ظنَّها يوماً
مواثيق،
قطعها إنسيٌّ أحمق،
أفلتها لحظة دهشة،
وسجَّلَها الجدار،
وسط حنظلِ رواياتِه
قهقه 
جدارُ المكتبةِ عالياً
راح يروي، 
كيف أهدر الوعدُ
مهجة الملائكةِ
حين تناثرت
في الأرجاءِ بقايا
محابر،
تنبئ عن جريمةِ وعدٍ
ارتكبها أحدُهم
منذ عام بلا أدلةٍ
سوى شهادة 
جدارٍ مخمورٍ
و جثة.
توصيف فني حرّك النص بسلاسة مع ما يحمل من رمزية بصوره المؤلمة. تنساب اللغة في هذا النص سابحة في حرية التكثيف رغم تكرار المفردة، فأولدت معاني الجمال، بعيداً عن خنق المتلقي في سفسطة لا يمكن الخروج منها، وهذه أهم مرتكزات القصيدة التجديدية حين تحلق بعيداً وتنتج إبداعاً.. هرطقة مخمور.. جدار مخمور.. الجدار ذلك البؤرة القافزة بدلالاتها المتعددة..
هنا نكتشف جديداً آخر هو الكشف عن نفسية النص، وبالتأكيد يكون أول الانطلاق من سيكولوجية الشاعرة وارهاصاتها ودواخل روحها الحالمة أو المتألمة، أو العاشقة، التي نرى الكثير من القصائد التجديدية تميل إليها وكتبت بها شاعرتنا، وتسير على نهجها في غالب نصوصها. 
حين تتفوق لغة الوصف بجمالها ومعانيها على تلك اللغة الدارجة في كتابة الشعر من أجل الشعر؛ هناك يتفتق ابداع (الشاعر/الشاعرة) الحقيقي المنفعل بما يكتب، ليضع أمام القارئ صورة النقاء، والإحساس، والمشاعر التي كتب بها، وهذا ما وجدناه لدى الشاعرة في كثير من قصائدها وهي تقول تأكيداً على ذلك في قصيدة لها بعنوان "عداءُ المناطق الرمادية":
دائي الأزلي،
تصيبني أشباهُ المواقفِ
بالقلق
لا أدركُ فحوى 
الأنوار الخافتة
والنوافذ المعتمة
أجدُها متناقضةً
لا لذة فيها،
إمّا النورُ الساطع،
أو الظلام،
إما حياةٌ أو موت
ما جدوى حيلة
الابواب المواربة!
ومن اخترع لنا
 أنصاف الأشياء
ليمنحنا شبه شعور..
إنها حقاً خدعة!
تكمن هنا ملاحظة جديرة بالاهتمام يجدها بوضوح الناقد والمتلقي حين تنتقل الشاعرة بالصورة الفنية للكلمات الواصفة لحالة ما، أو واصفة منابع الوجدان كشاعرة بذات المفردة لمعنى لوني جديد، يقلب الحدث الأول لمشهد آخر بالتصور، ومن ثَمَّ ادراك طبيعي لمتناقضين هما في الحقيقة ليسا كذلك؛ الحياة والموت، النور والظلام، وبصورة مضمرة: الأمل واليأس، الأبيض والأسود.
google-playkhamsatmostaqltradent