recent
أخبار ساخنة

شعرية التشكيل البصري في مجموعة الشاعر عبد المنعم القريشي "بالأسود والأبيض" / د. عماد الحيدري

شعرية التشكيل البصري في مجموعة الشاعر عبد المنعم القريشي "بالأسود والأبيض"

د. عماد الحيدري

تحاول قصيدة النثر منذ انطلاقتها في مشهدنا الشعري وإلى الآن أن تستحدث بدائل فنية - إن جاز لنا التعبير - عن الموروث الإيقاعي المعشش في ذاكرة المتلقي وذائقته لتكون بمثابة تعويض عن هذا المفقود، فما كان من شعرائها إلا اللجوء إلى استعمال بعض تقانات التشكيل البصري التي تتخذ من سطح الورقة ميداناً لاستعراض مفاتنها بالتعويل على الرؤية الباصرة.
والتشكيل البصري هو المتمثل بالشكل الكتابي للقصيدة بفواصلها وفراغاتها وأشكالها الهندسية وبناها الخطية وكل ما يتعلق بالخطاب المقروء الذي يسهم في توجيه الدلالة، وهو ما اشتغل عليه حشد من شعراء الحداثة إيماناً منهم بأن هذه التشكيلات والبنى قد توازي الاشتغال الموسيقي في الخطاب الشفوي الذي غالباً ما يعوّل على النبر والتنغيم والحركات اليدوية والانفعالات النفسية المؤثرة في دلالاته.
في مجموعته "بالأسود والأبيض" الصادرة عن اتحاد الأدباء والكتاب في النجف الأشرف عام ٢٠٢٠ يتوسل الشاعر عبد المنعم القريشي بالشعرية البصرية تعويضاً عن المفقود السمعي وتعبيراً عن الشعور النفسي أو عن بعض الأحوال التي قد يقوم السياق بفرضها، فمنذ عتبة العنوان وضع الشاعر مفردة (بالأسود) داخل مربع أسود توجيهاً لدلالة السواد على حين اعتمد في المفردة الثانية المجاورة لها (الأبيض) على بياض سطح الورقة إمعاناً في التعويل على العين الباصرة للقارئ في التمييز بين المفردتين وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على تجاور النقيضين في هذا الكون وتكاملهما على مستوى الأشياء إذ لا وجود لأحدهما من دون الآخر. 
وفي بحثه الدائب وسعيه من أجل إيجاد حياة أخرى للشعر بعيداً عن المعاني المستهلكة يستنطق القريشي بعض الأشكال الهندسية تظافراً مع المضمون عندما يريد لفكرته أن تنعزل عن القصيدة تكريساً لعنوانه الرئيس فقد رسم مربعين أسودين في عتبته النصية الثانية ليكونا بمثابة علامتين سيميائيتين ترتكز عليهما أغلب نصوص المجموعة قائلاً في المربع الأول:
وعندما تهيأت الأسباب
لتحقيق الحلم
عثرتُ بالجرة ص٧
فالعلامة هنا هي انكسار الحلم المرتقب الذي نجد معناه متجسداً في نص (المتاهة ص٩) وفي (شفرة الحياة ص٢٤) و(في المقهى أيضاً ص٨٤) وفي (بعيداً عن فرويد) الذي قال في مستهله:
أحلامي القادمة 
أعلم - يقيناً -
أنها لا تتحقق ص٩١  
فهو أراد أن يضع أقدامنا على عتبة اللاجدوى حيث الحلم الضائع والتيه والحياة العابثة، وفي المربع الثاني قال:
حين يكون التاريخ سكيناً
والمؤرخون جزارين
يرفع المعتوهون
راياتهم الحمراء ص٧
ليشير إلى الزيف المتعلق بالتاريخ حتى صرنا نفتقد إلى الحقيقة ونجهل مكمنها وهذه الإشارة سنجد لها مصاديق كثيرة في عدد من نصوص المجموعة أو بين طياتها كما في:
الحياة تمشي بلا بوصلة ص٩٥
نسبح في السديم ص١٠٢
الواقع ينبوع جفت أوراقه ص١٠٤
سوف يبتلعنا الطوفان ص٦٣
ومن مواطن توظيف القريشي لتقانات التشكيل البصري نلحظ في نصه "خارج اللوحة" أن بعض الجمل تشير إلى بعضها الآخر بوساطة سهم كما في قوله مثلاً:
الفاختة تبكي ________ الأشجار تضحك ص١٨
 فكأنما يريد إشعار القارئ بأن بكاء الفاختة يؤدي إلى ضحك الأشجار وأن هذه الثنائية الضدية: البكاء / الضحك لن تؤدي هنا إلى التناقض وإنما إلى التوافق لأنه بنى فكرته عبر الرؤية الباصرة على أساس هذه المفارقة التي وجهت بوصلة الدلالة إلى ما كان مرسوماً خارج لوحة الفنان ولكنه داخل مخيلة الشاعر.
وفي نص "الغريب" إدهاشٌ أنتجه التشكيل البصري عبر علامات الترقيم الملفتة للنظر لكثرتها وحسن تنظيمها ولا اعتباطيتها فضلاً عن غرابة توظيفها المتناغم مع العنوان كالذي فعله الشاعر في استعمال علامات الاستفهام والتعجب عند نهايات أسئلته المحيرة أو المثيرة للاستغراب، فحينما وضع علامتي استفهام تتبعهما علامة تعجب بعد كل سؤال من هذين السؤالين:
(لماذا تبكي أيها الغريب)؟؟! 
هل عرفت أن الكذب لا يصدقك؟؟! ص١٥
فإنه ربما يريد الإشارة إلى وجود التناقض بين البكاء والكذب.
وحينما وضع ثلاث علامات استفهام بعد قوله: أيهما سأكون؟؟؟ في نصه "إنشطار الذات" فإنما ليوجه الدلالة إلى شدة الحيرة وقلق الاختيار واستكناه أسئلة الوجود والذات الحائرة، فضلاً عن كونه وضع في هذا النص ترقيماً نجمياً في مقدمة كل فقرة من فقراته الخمس للإشارة إلى مراحل حياته التي مرت بها ذاته المنشطرة بحسب ما يشير إليه عنوان النص، وإذ يضع هذه العلامات الثلاث في نهاية نصه "شفرة الحياة" في قوله:
وما زالت أيامنا
مثل عملة ورقية تالفة؟؟؟ ص٢٧
فربما لتوجيه الدلالة إلى ذلك اليأس الوجودي تماهياً مع العنوان. وإذ يلجأ إلى ترقيم فقرات نصه "رحلة علوان العتال" إلى ترقيمات سبعة فإنما للإشارة إلى المراحل أو المحطات التي مرت بها حياته.
ولعل الاهتمام الواضح في هذه المجموعة ببنية المكان النصي جاء لاستنطاق القيم الجمالية في معمارية النص الشعري واكتشاف المكتنز من الأسرار الإبداعية الجديدة فكان اللجوء إلى التشكيل البصري لتجسيد هوية الخطاب فضلاً عن إنتاج علامات إيحائية فارقة تضاف إلى بقية القيم النصية فحينما يضع نقاط الحذف في نص "تنظيف" فإنما ليعزز هوية عنوانه الذي يقرر مسح كثير من الكائنات الخرافية من حياته:
أستميحك عذراً
سأشطبهم من حدائقي ص١١٩
وقد يتوسل القريشي بالحذف والبياض بوصفهما تقانتين بصريتين لهما الأثر الكبير في إيقاظ القارئ وتنبيهه إلى دلالات تعمّد إخفاءها لتكون رمزاً يسهم في تأجيج الفكرة الشعرية وفي تعدد تأويلاتها فهو إذ يضع في مطلع نصه "دهاليز" ثلاثة أسطر دالة على الحذف على شكل نقاط فإنما ليوجه التركيز على ما سيأتي من تداعيات ومنها:
هذا ما نعرفه
عن الضوء الخافت
عندما يتحلل
إلى تعبٍ في المخيلة ص٥٥
فقد أراد التعبير بصرياً عن مقدمات الضوء المتحلل وكيفية استحالته في مخيلة الشاعر ربما إلى تعب وضياع يمارسان دورهما في تعدد الخيبات وتكرار الخسارات في هذه الحياة وهو ما يفسر قوله لاحقاً في النص نفسه:
فضاءات
من الرؤوس الداكنة
تسير بمحاذاة الحياة ص٥٦
فدكنة الرؤوس أوجدها الضوء الخافت عندما تحلل وهذا الأمر هو الذي دعاه إلى أن يستهل نصه بالحذف إمعاناً بالغموض الفني الذي اتخذ من هذه التقانة وسيلة لإيجاد علاقات دلالية جديدة.
إن عبد المنعم القريشي شاعرٌ باذخٌ باشتغالاته المتنوعة بارعٌ بالإمساك ببوصلة التجديد في فضاء القصيدة الحديثة وما اشتغاله على تقانات التشكيل البصري إلا لقدرته على مغايرة السائد واستنهاض القيم الجمالية الداعية إلى الإختلاف المنشود.
google-playkhamsatmostaqltradent