recent
أخبار ساخنة

لمهيمنات الشعرية في مجموعة "اششش لا توقظوا الحرب"

 لمهيمنات الشعرية في مجموعة "اششش لا توقظوا الحرب"

بقلم الناقد د. سمير الخليل، على صفحات الاتحاد الثقافي
شكري وامتناني الكبيرين للأستاذ سمير الخليل لقراءته الواعية، وللأستاذ منذر عبد الحر لكرم النشر.
_______________________

بدءاً من العنوان والإهداء تضعنا مجموعة (اششش لا توقظوا الحرب) للشاعر أحمد حميد الخزعلي، الصادرة عن مطبعة آراء، ط2، بغداد، 2019، أزاء مهيمنات تمركزت حولها معظم نصوص المجموعة وهي الحرب والمرأة واليومي والمهمل في معترك الصراع اليومي وما يجعل به من أزمات وانكسارات ومساحات ضوء أحياناً. ولذا نجد هذه المجموعة لا ترتكز على مفهوم الغرض الشعري بل أنها تخوض أحياناً في أكثر من ثيمة في النص الواحد وتستغرق في تجليات بل والغوص في التفاصيل اليومية فهي نصوص تقترب عموماً من هموم الإنسان العراقي وهو يواجه الحروب والأوجاع والواقع اليومي المأزوم لكن الشاعر على الرغم من هذا التوجه لا يلجأ إلى الرثاء السوداوي بل يستميت في إيجاد ومضات تعكس الاستئناف والتواصل واكتشاف المعنى المقترن بقوة البقاء، في نص (جنس من نوع آخر) يقول:

كيف أقنعكم أنّ جدّي لم يرتعش أبداً
حين أنزل آماله المعلّقة في رحم جدتي
قبل سبعين خيبة
بل كان خائفاً جداً
يقرأ عليها تعويذات قديمة
وكلّما ركبنا ساتر الفقد ارتعش طويلاً
يدعمك عصاه بحائط المعبد المجاور لبيتنا
ويذكر أحفاده الذين التحفوا غطاء الأرض
وآخرين لا نعرفهم
سوى أنهم كانوا جينات النار فقط
أقصد الحرب...
الحرب التي ضاجعت مدننا كلها
في ليلة واحدة. (ص7)

هذا النموذج من اشتغال الشاعر نلحظ فيه كيف يزج بالصور الغرائبية تماهياً مع غرائبية (الحرب) ليوصل إلينا صورة القبح والشر والخيبة وهي افرازات للحرب ويشتغل النص على ثنائية الدال والمدلول في توصيف الحدث الذي "يضاجع المدن" وينشر "جينات النار" والقصيدة تصوّر الحرب وفق تجسيد لولادة كائن وحشي ومخاض باتجاه (الفقد)، فنجد مفردات (الرحم) (الارتعاش) (الجينات) (المضاجعة) و (ليلة واحدة)... الخ.

يسعى الشاعر إلى أسطرة الوقائع المرتبطة بهذا المخاض الوحشي ويجعل من المدن شبيهة بالإناث التي يشوهها قبح المضاجعة وفي هذا الاشتغال الدلالي يتكامل الترميز في أنّ الحرب إنجاب شاذ وغير شرعي وأنها ستلد كلَّ ما هو مشوه وعلى مدى أجيال بدلالة الترميز (الجدّ والجَدَّة) فالحرب وفق هذا المعنى لا تشوه جيلاً محدداً إنّها وشم بدائي يمتد عبر الزمن من الآباء إلى الأحفاد.
وعلى الرغم من وجود العقل وقدسية المكان أحياناً بدلالة "المعبد المجاور لبيتنا"..
والنص يتحدث بضمير المتكلم لكنّ الدلالة تتسع لتشمل (المجتمع والمدن والأرض) فالحرب بطبيعتها الشريرة تستهدف الأفراد والجماعات والحاضر والمستقبل وتشوّه المعابد والمدن ولا تُنتج سوى (الفقد) (سواتر) (العدم)، وفي نص (للعلم فقط) يقول:

عندما تنتهي الحرب
وتمتلئ الكُنية خاصتي بالأختام
سأتزوج مرّتين
ليكون عندي أولاد يحملون نعش المدينة
بدل اليدين اللّتين نسيتهما جسراً
عند حافة النهر. (ص8)

ويورد الشاعر مصطلحات ومفردات الحرب مثل (الكنية) وهي الصحيفة التي تدون بها معلومات الجنود و (الأختام) التي تستخدم للوحدات والتشكيلات العسكرية ولعلّ جملة (عندما تنتهي الحرب) تعكس الهاجس المتأجج من اليأس لنهاية الحرب... فكل الحروب لا تمنح نهاية محددة أنها تبدأ ولا نعرف لها نهاية وحتّى أن توقف الرصاص، ففعل الحرب يبقى ينخر في واقع الحياة ويجعل "الأولاد يحملون نعش المدينة" دلالة رمزية للموت الجماعي وجملة (سأتزوج مرّتين) دال مكتظ بالمعنى والتأويل فالحرب تحتاج إلى من يمدّها بالبشر وأنّ الزواج لمرة واحدة لا يكفي لإدامة زخم المحرقة حتى يتحول الإنسان إلى أن يكون (ابن الحرب)،
كما في نص (ثديان وحلمة واحدة):

إنني ابن حرب فقط
الحرب لم تنته بعد (ص16)

وهاجس عدم التيقن من نهاية الحرب يتكرر فنهاية الحرب تمثل لحظة إعجاز لا يستطيع أن يُدرك هولها سوى القابعين تحت الرصاص وبين السواتر، ويصوّر الحرب وكأنها كائن يمتلك الحواس ويشم الضحايا في صورة مترعة بالإثارة والغرائبية في نصهِ (ولأنّه يحبّها كذّب كثيراً):

ولأن أخي يحب البرتقال كثيرا
كانت أمي تشمّ وجوده
حين تمخضت الحرب
وطرحت الجنود على أرصفة السواتر
راحت تشمّهم واحداً واحداً
ولأن أبي كذّاب جداً
ظلّ يشتري البرتقال
حتى صار شجرة كبيرة
شجرة بلا جذور
الجذور التي تركها هناك
عند قبر أخي
وكلما رفعت أمي رأسها لتشمّ أحدهم
ارتسم في فمها برتقالة (ص59)

فالحرب هي كذبة أشبه باللّعنة حتى لو صدرت عن مساحة تدّعي القداسة، قداسة الآباء والأشجار.
استطاع الشاعر عبر هذه الصورة المؤثرة أن يجسد لنا قبح الحرب وادرانها المقيتة، فالحزن هو القرين لأية حرب كما في نص (الأسرار طازجة دائماً):

لا يمكن أن ننعم بابتسامة خجولة من شفاه المدن
المدن المثقلة بالحروب
كان عليها متابعة الأمور جيداً
فكلّما حفظت ثلاجة الموتى أسرار الجنود
تنصّل النهر من حفظ بقاياه الملونة
أسفل القاع. (ص58)

نلاحظ دائماً ما يلجأ الشاعر إلى ذكر المدن حين يذكر الحرب ويجسّد هذا التضاد الرمزي القائم بين الدال والمدلول فالحرب (دال) مدلوله الموت والمدينة (دال) مدلولها الحياة والإزدهار، وهذه الثنائية المتضادة تعمّق الاحساس بالصورة وتعكس أهوال الحروب التي تزور المدن عبثاً، وتمثل المرأة إحدى مهيمنات الشاعر ففي نص (على سبيل الحب) نجد:

أُرتّلك ألقاً عابراً فوق الغيم يساير مزاج الريح
كلّما استفاض الشوق
ليطرح على صدر البساتين ثمرة ناضجة
تستفزّ مداد الأقلام، روايات فانتازية وأشعاراً رمزية
مطرزة بالنّمش فوق جسدِك
ولكِ حينها أن تقولي أيَّ شي. (ص68)

يحشّد هذا النص صوراً محلّقة احتفاءً بوجود المرأة وهي تلّون لحظة التواصل فهناك (الغيم) و(الألق) و(ثمرة) ناضجة و(المداد) (الفانتازيا) و(الأشعار الرمزية) و(النمش) و(الجسد)...
هذه كلها مفردات الإحتفاء بوجود الحبيبة ويورد المقطع (كلما استفاض الشوق) حتى تتلون الطبيعة بهذا الإزدهار الجمالي فالأثمار تنضج والأقلام يأتلق مدادها وتصبح اللحظة أقرب إلى الفانتازيا والأشعار الرمزية، حينها يسود الصمت الجميل.
على الرغم من دعوة الشاعر ((ولكِ حينها أن تقولي أيّ شيء)) وكأنه يستغني عن القول فالصورة أبلغ من أي كلام، وحضور الجمال يغنيك عن ثرثرة الوصف، والمرأة في مخيلة الشاعر تقترن دوماً بالبهاء والضوء كما في نص (نورسة الصباح):

أيتها الملتحفة بالضوء
المنكفئة في عيون المارة
يا أنت...
يا كلّ الأماكن
يا قلقي الناعس فوق جسد الأرض
أيتها الصدفة.
أنا آخر العاشقين الذين كتبوا قصصهم على شواهد الذكرى
أنا آخر المغفلين الذين ركضوا خلف أحلامهم النديّة
أنا آخر الشعراء الذين اجهضوا قصائدهم تحت جنح الظلام
يا أنتِ..
يا كلَّ ما تبقى من ذكرى تهمس للريح
اتركيني فقط اسبّحكِ تراتيلاً عند جسر بغداد
أدّعي ما ليس لي وأنكر ما اختزلته الأيام
كنورس لوّح للشمس
واستذكر ساعات البرد. (ص75- 76)

يرتبط وجود المرأة بما تفيض من سحرها على المكان والمارة والنهر... (يا كل الأماكن) وكان الشاعر يؤنسن الأمكنة ويضعها معادلاً صورياً بمعشوقته التي تحمل مذاق المصادفة... ويقترن العشق بالذكرى ويدخل (الزمن) بوصفه أحد شواهد العشق ويبرهن الشاعر على مدى عشقه كونه آخر العشاق وآخر الشعراء ويعكس الأسى الذي غالباً ما يقترن بأحوال العشق فالذكرى (آهة) والظلام يعكس أنّ ثمة حواجز وموانع تجعل الحبيبة بعيدة. ولذا نجد مفردة "ذكرى" تتكرر... فالذاكرة هي الوعاء الذي يسجّل لحظة السّحر الآسرة والعابرة بسرعة مثل برق وسط سماء مدلهمّة... المرأة في مخيلة الشاعر (كنورس لوّح للشمس) و (استذكر ساعات البرد)
الشاعر في مجمل صوره الشعرية الجميلة يعكس صورة البهاء الأنثوي حتى يتحول المكان إلى فيض من فيوضات العشق ونجد هذا الاهتمام بين المرأة والمكان والحلم والذكرى والشوق الذي يمثل هاجساً مؤلماً كما في نص (آسف لكل شيء) يقول:

أشتاقكِ بالقدر الذي خذلت فيه ابتسامتك التي مازحت
الشمس تحت أنظار الربيع..
اشتاقك بقدر الغيرة العمياء
وأنت بين أحضان عارية مني،
اشتاقك بالقدر الذي أخبرك به الآن،
إنني اسف جداً..
آسف لكل شيء. (ص64)

تعلو نبرة الحزن لكون نبضات الشاعر وهو يتنقل بانفعال جميل بين الأشواق والغيرة وتصوراته بأنّه فقدها فحتى في الفقدان والغيرة هي ملتحفة بالضوء ولا تستحق سوى الاعتذار والأسف الذي هو نوع من الأسى الذي يقترن بانفعالات العشق المتناقضة. إنه ينقل لوحة ملوّنة لما تثيره المرأة في إحساسات متباينة ولحظات العشق المتأرجح.
وفي نص (فقد) نجد إحدى مهيمنات المجموعة والتقاط اليومي والمهمل والمسكوت عنه:

الأطفال يلعبون في الشوارع.
كي لا يوقظوا الآباء
وهم يخلدون للأحلام على ناصية المدن
إلاّ ابن جارتي
يرفع صوته في أرجاء البيت كل يوم
كي يوقظ أباه الذي نام طويلاً
منذ أخر صافرة للحرب. (ص99)

في هذا النص وعبر صوره المؤثرة يلتقط الشاعر لحظة ملتبسة ويصوّر لنا ما سقط من أخبار الحرب وامتزاجها بما هو يومي حتّى أنّه التصق بأحلام وملاعب الأطفال بل إنّ مفردة (اللَّعب) و (الشوارع) و (الجيران) و (الآباء). كلهم يشتركون بأن الحرب قد تسللت إليهم عبر الزمن وأن الأمكنة مسكونة بصوت الحرب وحضورها.. فالصورة الشعرية قد حلّقت وأوصلت المدلول المسكوت عنه ليس بتصوير السواتر والقتال وإنما بحضور الحرب في الشوارع والبيوت وملاعب الأطفال، ونجد صورة لليومي والمهمل في نص (أكشن):

المسلسلات المدبلجة تصوّر المشاهد ببطء
ببطءٍ شديد
مثلكَ تماما
حين تأخرت في لقائنا الأخير بقدم واحدة
كان عليكَ أن تغيّر دمك
تضع زيت محركات مثلاً
لتعمل أعضاؤكَ بليونة أفضل
أو أن تغلق فمك كلّما تثاءبت ذكرياتك
"فتح الأفواه عادة مقيتة".
هذا ما سمعته من جارتنا العجوز. (ص21)

تبدو القصيدة كأنها التقاط لما يحدث من وقائع اليوميات وما يهمله الناس من بعض ما يقومون به، وثمة اسقاط للمسلسلات المدبلجة وكأنّ بعض الناس استعار هذا البطر منها وتحولوا إلى أبطال يعانون سقطات عابرة وكأنّ النص يحرض على أن يتحرر الإنسان مما هو يومي وعادي ويتخلص من بعض ما يعلق به من رتابة الواقع ويكون "أكثر ليونة".. النص دعوة لمغادرة التكرار الذي حوّل النّاس إلى مقاطع مملة وفيه التقاطه وسؤال وجودي فحين تغيب الومضة وهي أسيرة اليومية يتحول الناس إلى كائنات مدبلجة ومشاهد بطيئة.. حتّى أن الذكريات تتثائب ببطء وهذا يكشف قدرة الشاعر على التقاط لحظات من وقائع اليومي وترميزها وجعلها مساحة لأسئلة عميقة ودالّة عبر صور واستعارات من مفردات الواقع نفسه.

تجربة الشاعر أحمد الخزعلي في هذه المجموعة تعكس مخيلة محلّقة وترصد بجمالية وجرأة الحرب والمرأة ووقائع اليومي عبر لغة مؤثرة واختزال ورصد ذكي يثير التساؤل ومتعة التلقي. 
عرض أقل

google-playkhamsatmostaqltradent