مرافئ
البداية
والإحساس
بالطّريق في "صحيفة المتلمّس"
عبد الحفيظ بن جلولي
يخرج الشّعر من عباءة لحظته هاربا إلى لحظات
شعرية استثنائية في تاريخية القصيدة العربية، ليعانق نهر الحياة المكثف بالاغتراب
والحزن، ذلك ما يخبرنا به شاعر "صحيفة المتلمّس"،"المتلمّس"
الشاعر الجاهلي الذي "يقذف بصحيفته في نهر الحياة وراح هاربا إلى بني جفنة
ملوك الشام.."، فهل صحيفة عبد الأمير
خليل مراد، تمثل البيان الشّعري المؤثِّث لاغتراب الشّاعر العربي، المعانق للمنفى،
الحزين في دروب الحياة؟
يُفتتح الدّيوان بقصيدة
"احتمالات"، قد تكون المحتمل الوجودي الطّافح بالدرامية التي تقدّم
الحركة التّاريخية للذّات كما لو إنّها تنسج هروبها المتتالي في ألوية القصيدة
لعلها تستطيع أن تقول شيئا من غربتها:
حين
لا أملك إلاّ أن أقذفك
بهذا
القلب "/ص11
تتأسّس مسافة الحِبِّية عند معنى
"القلب"، لكن أن يُقذف بالقلب، معناه أنّ الحركة التّاريخية التي يبنيها
الشاعر حينما لا يمتلك في رحلته الوجودية سوى المصدر المحرّك للاغتراب،
"القلب" ذلك الذي يهديه ويتحرّك بواسطته، وذلك الذي تتقاذفه الصّدمات:
"الذي تدوسه حوافر العنقاء من كلّ جانب
حتى
يقفز من صدري"/ص11
هل يمكن أن يرى الشّاعر قلبه مجاورا للمسافة
التي يشكلها ظلّه على طريق الغربة والمسافات؟
تلك هي الحالة العنقائية التي ليست سوى أسطرة
للبنية المعنوية في محايثة القلب للمسار الذي يتّخذه الشّاعر خلال رحلته الوجودية،
لا يصير القلب إلى الدّيمومة إلا إذا تماثل مع العنقاء، أي وجوب انبعاثه من رماد
حرائقه المتتالية، لكي يستمرّ النّبض عالقا في عاطفة المحبّة التي لا يتخلى عنها
الشّاعر، بل يروم توهّجها في المسافة الوجودية، فيحتال على الصّدر كي يغريه بقذف
القلب كتلة من محبّة تزيح عن الشّاعر وحشة الوحدة في المسار الوجودي.
لا تتمكن الشّعرية من اقتناص اللحظات
الجوهرية في سطوة الكلام أو قدح الشّعر المعلى، إلا إذا استطاعت أن تدرك أو تقبض
على لحظة ما هاربة في متاهة غابوية لا تعلن عن ذاتها إلا إذا ناهض الشّاعر برهة
التورّط في الاضمحلال:
ولكنّني رغم أفولي
أحلم بالقمر الذي لن يضيء شرفتنا
الليلة"/ص15.
إنّ التّناوب بين الذّات والموضوع في تطوير
حالة من التّساكن بين ما يقع على الذّات من ثقل الإقصاء "أفولي"، وبين
ما تتغيّاه من أثرٍ للإبقاء على وهج الوجودية كفيض من لمسة الأثر لإنجاز اللحظة
التّاريخية، فدون مصدر للنّور "القمر"، لا يمكن بناء رؤية تنطلق من عناء
الذّات في تكريس بصمة ما، فالجمع بين الليل والقمر، لا يجد معناه سوى في مسار
التلمّس للنّبض العالق بين ثنايا العقبات كمحاولة مستميتة من الذّات في تعليق
مصدرية للجمال على واجهة المسار، وبالتّالي تصبح الظلمة عنوانا للجمالية الأكيدة
في سماء الاغتراب، ويبدو لي أنّ هذه بؤرة المعنى المركزية في توطيد العلاقة بين
الدّيوان وصحيفة "المتلمّس" الشّاعر، باعتباره حالة اغترابية جمالية.
لا يحتاج الشّاعر إلى أن تتساوق في مساره
الأشياء، فالطريق الشّعري ليس إلا تعبيرا عن مسار وجودي بلكنة الكلام، لكن الطّريق
دوما ليس معبّئا بالعلامات، إنّه أيضا لاطريق، هو حالة من حالات المسار الذي على
الشّعرية أن تخوضه باعتبارها وضعا نضاليا يمتثل للكلام كي تتشكل البنية الشّعرية
من عمق الكيان السّائر والغامض:
ماالذي يصطفيك لهذا الطّريق
لا المسافة لصق الخطى
لا المعابر تفضي إلى شاطئ آخر/ص24
إذ يتمسّك الشّاعر بالحركة كمفهوم للدلالة
على طاقة الكلام حيث يختزن المعنى، يشكّل في المدى كيانات الأشياء ويحلم فقط ببناء
المسار، لكنّه دائم السّؤال عن وجودانيته داخل متاهة المعنى في كينونته الشّعرية،
فالشّعر "طريق"، ما الهاجس الذي دفع الشّاعر إليه؟ هل هي بدايات العبثية
الكلامية في خرائط الوضع المعرفي والوجودي للشّاعر؟ قطعا سوف تتأكد مسارات المعنى
في المهمّة الشّعرية حين تتحدّد الأشياء لا بلغة التّعيين ولكن بأخيلة الوضع
الاستثنائي للحلم، فليس المسار الشّعري سوى نضالية مستميتة في سبيل أن تتكرّس بصمة
الذّات بكل توهّجات الاختلاف الوجودي، الشّاعر كينونة حالمة، والطريق لا ينبت من
الخطى، الطريق وردة في بستان الشّعر القادم من غيب الشّاعر الشّعري:
مبتهجا غادرت الغرفة
تتقاطع في خطوي أرصفة الحلم/ص28
إنّه
ذلك الهناك الذي لا يعرف كيفية استدراجه سوى الشّاعر، فــ"المعاني مطروحة في
الطريق.."، وحده الشّاعر الذي يبني منها كيان القصيدة الخارق لكل توقع، ومن
هنا تنسلخ القصيدة من بداهات التوقيت لتندمج مفهميا وتخييليا في اللاواقع:
أيها الشّعراء أنصتوا للرّياح
تصرخ الآن في هيكلي/ص27
يتأسّس الشّاعر معلما في الطريق، يرمّم شكل
العلاقة مع العالم (الشّعراء)، ليدرج شكلا من أشكال الاتّفاق كميثاق لخوض متاهة
الطّريق الشّعري، هي تلك البراءة الكلامية حين لا تأتي وفق مواعيد التّحديد،
"الرّيح" فقط تشكل الصّوت والصّدى الذي يصفّر في هيكل الأشياء القابلة
للنّفور من التعريف والتفسير، "الرّيح" وحدها تحيل الكينونة إلى مدى
أوسع للتأويل، إذ يصرّح الشّاعر:
يهبط شاعرنا
الضّارب في أرض الله/ص28
من أين يهبط الشّاعر؟ سؤال الخبرة في
الاشتغال على القصيدة إذ تتهادى من سماء الشّعر فريدة غريبة سوى من روح الشّاعر.
يهبط إلى أين أيضا؟ إنّها بدايات المسار في الطريق، فالهبوط رمزي منذ أن فتحته الرّحلة
الآدمية في افتتاح التجربة الإنسانية على مسارات التّاريخ.
تبدأ القصيدة جولتها المسائية في أقبية المدينة
التي من هاجسٍ وسؤال، تتكلم بمنطقها المبني فقط على منطق الكلام، تستأنس بكل ما
تلتقيه وتبني منه شكلا للوهم أو الخيال أو ما لا يتوقعه الفهم، لا يعنيها أن
يتكرّس الفهم في نبض القراءة، فالطريق ليس به معالم، إنّه الحجر والرّمل والمسافات
التي لا تنتهي، ولكنّها قابلة للتّفاهم عند عتبة التأويل، القصيدة هي هذا المدى
المفتوح على طريق الشّاعر وليس طرق العالم المعبّدة والعالقة في تخوم العلامات، لا
علامات تسجن القصيدة، فطريق الشّاعر يتفجّر من غربة العلامات:
وقوفا فلي أحرف
من سؤال المقابر كانت معي/30
هي العلامات التي تتشكل حتى في طريق
الماوراء، ذلك الذي يبدأ من عدم البداية أو متاهات النّهاية غير المضبوطة بمسار،
فما معنى أن يتشبّث الشّاعر بسؤال المقابر ليبني شكل "أحرف" تنسج خيمة
عالمه اللغوي؟ إنّها الطريق التي لا تنتهي إلى الموت بل تبدأ منه، فالمسار الشّعري
حياة تغري نهاية الذّات حين يغيّبها الموت كي تبدأ في القصيدة لتنفث فيه– المسار -
سرّ اللاشيء واللامنطق واللاوجود.
تكتمل الصّحيفة لا لتنتهي، ولكن لتشكل معلم
البداية التي لا تنتهي، يمرّر الشّاعر مسافة الطريق معيّنة بين الكوفة والشام:
ما أوحش درب الرّحلة
ما بين الكوفة والشام/ص67
قد تكون المسافة لتحديد حالة الشّاعر وهو
يروم رواية الحكاية من منطلق أنّ القصيدة بهجة في مسار بعينه، فالمكان هوية
القصيدة، دون أن تتحدّد هذه الأخيرة بتضاريسه، فهوية القصيدة لا تأخذ طبيعتها سوى
من غيب الشّاعر الشّعري، أمّا ما بين الكوفة والشام هو مسار الشاعر البدئي حيث
توثّب الإحساس بالمعنى وتدثر غربة الأشياء حين يتعزّز الخطو الوجودي في المكان،
ويتبعثر الوعي كمساء حزين داخل شرفات الغروب، فيبدو من بعيد مركب صغير ومرفأ للرسو
وقليل من الصيّادين الذي يفككون بعضا من وجودهم الزمني على حافة الموج/القصيدة.