إزاحة الستار وإظهار المحجوب
تعرية الجسد / تعرية الآخر
* ستار زكم
من يريد التميز بالكتابة الإبداعية في الراهن الإبداعي عليه ان يختار كتابة مختلفة بعيدا عن السائد المألوف / بعيدا يغرد خارج السرب . وهذا ما اختارته الشاعرة ابتهال بليبل في كتاباتها الشعرية مؤخرا حيث اصدار المجموعة الشعرية ( جسدها في الحمام ) الصادرة عام 2018 .
ولعل عنونة المجموعة الشعرية تشي لنا بكتابة تحررية كونها اتخذت من الجسد بأعتباره مكونا انسانيا دعامة اساسية في مسار كتاباتها ليذوب الجسد في المكون النصي للمجموعة الشعرية بأكملها بغية تحرر المرأة من قيودها والأسيجة التي تسور حياتها واختيارها لل ( جسد ) لم يأت من باب الغواية كما وصفه بعض النقاد . بل يأتي بمثابة كشف الآخر اي انها عملية فضح وإدانة للتلصص والتقاليد التي تكبل حياة الشاعرة وهذا يبدو واضحا وجليا من خلال متابعة النصوص الشعرية وخاصة نصها الذي حمل عنوان المجموعة الشعرية ذاتها ( جسدها في الحمام ) حيث يعد افضل النصوص تفردا وتميزا .
( هل يدل هذا الحمام علي ؟
لقد كنت ادخله بأجساد واوقات لاتراني ... الأوقات التي تمشي دائما مثل سنوات عمري بحثا عن اللا شيء , مثل طير يحلق عاليا للفعل ذاته .. الأمر ايسر في الحمام حيث الهروب , السكينة , وأحيانا الأنهيار ) ص19
تعرية الجسد عبر المخيلة والتدوين على الورق هو بمثابة تعرية لأفكار الآخر وكذلك تعرية الأشياء والأفعال الأخرى التي تقف بالضد من حرية المرأة .
المرأة في نظر ابتهال بليبل حبيسة المكان الواحد لذلك هي تقوم بتعرية المخاتلات والأنزواءات وجميع ملاذات المرأة لفك الأسيجة عبر رسائلها الشعرية التي اقتربت من لغة السرد بغية طرح مشكلاتها واحساسيها لتعري الصورة النمطية المحفورة في الذهن الذكوري السائد .
ابتهال بليبل هي الألم الذي يتكدس داخل الأنا بسبب عسر التعبير الصوتي داخل هذا الفضاء الحياتي . لذلك تعتبر هذه الكتابة بمثابة البديل الأبداعي الذي يصل بطريقة تكون مجاورة للعقل ومعدة للفهم اكثر فيتفجر عند عتبة الابداع الذي وصلت اليه ويندفع الغاطس وتظهر المتراكمات المطمورة الى اعلى نقطة من الأفصاح والأشهار وإظهار المخبوء والمحبوس في العمق الضاج بالحسرة والحيرة من عالم لايشبهها ابدا .
( عندما يدق جرس المدرسة , التدافع عند بوابة المغادرة , مثل قطيع تناول توا فضلات العالم ببراءة مثيرة ) ص 134
عندما نقرأ نصوص الشاعرة نشعر بأنها لاتعبر عن مفردها احيانا بل تعبر عن جيلها من النساء الأخريات لذلك نرى في اشتغالاتها الفنية إظهار التقاليد الأجتماعية البالية وما يحيط بها لتعبر عن مرارة المرأة المقيدة او الراضخة والراكعة لتلك الحياة المسيجة بتلك التقاليد .
( مثل امازونيات او نساء محاربات كافأت نفسي بقطع الثدي الأيمن ... نحن اللائي كنا لانملك عشاقا , سرقنا حمالات الصدر .. لقد كانت من الدانتيل الأسود الممزوج بالساتان . وبخيبة , حاولنا ان نرتدي فساتين عارية الأكتاف , الفساتين تتساقط واجسادنا تعرف القليل عن إغراءات العناق وتحمل داخلها اسرارا كاملة ) ص 61
يخيل لي ان ابتهال بليبل ترفض التعري بمعناه الحقيقي لكنها ارادت ان تنطلق من عتبة التعري كفوهة باعثة للعديد من الحطام الذي يسورها وحياتها الغير متوازنة . انها صرخة مدوية وسط زحام ذكوري يهيمن على ممارسة حياتها بشكل تام . فلم تجد الشاعرة سوى ان تقدم لنا نموذجا معينا تقوم بتعريته لأعادة صياغة المفاهيم . لذلك وصلت ابتهال بليبل الى عمق المحظور فالجسد هنا علامة مخفية ومستورة بأعتبارها ايضا مركز النظرة المتوحشة للعنصر الذكوري .
( لقد كنت وحدي أبتكر زنزانة كفضيحة تلاحق ذاكرتي لأتركني مثل نزيلتها الوحيدة , وحده جسدي في انتظاري دوما , ربما سيعود كما الماء الذي تبخر الى الماء ) ص21
هذا النوع من الأشتغال الفني يعد مركزا للأشعاع والوصول بقوة الى ذهن القارىء لأنها تقدم المحسوس على الفعل المسموع من خلال عرض صوري محسوس ومتوهج وصارخ وهو فعل مؤثر في البنية المجتمعية اكثر من اي فعل اخر لأنها تضعنا امام صورة الجسد الناطق عبر مستوى متناغم بين الجسد والرغبة بعيدا عن الأبتذال الآيروتيكي اي بعيدا عن سحطية الكتابة الغريزية .
لأن الشاعرة تقدم لنا جسدا ناطقا ينتصر امام الخطيئة امام ثعابين تتلصص دوما على المرأة ونمور تحاول افتراس اناقة الغزال . نعم انها صورة الغزال الذي ينعم في فضاء محدود بعيدا عن صورة التوحش فلا ملاذ إلا في اسوار ضيقة ينعم الجسد / الغزال لفترات محدودة قبل الانقضاض عليه . فالحمام هنا محطة من محطات الأمان ولحظة استرخاء للتفكير بعمق نحو عالم غريب . لذلك نجد العري هنا ليس فاضحا بمعناه الآيروتيكي لأنه عري مغلف بأشواك ومسامير مدببة . عري مخيف تتخيله الشاعرة وتشعر بمأساته .
( يلزمني الآن ... أن أتخيل ليلة داعرة , مثل شهوة تركض كذئبة شرسة في دمكم ) ص 83
تقدم الشاعرة هنا بوحا شعريا غزيرا يحتوي مقاربات حياتية عديدة دونتها الشاعرة بلغة تقترب من السرد وفق كتابة مفتوحة حيث الأجادة في تقديم المفارقات بين ثنائيات عديدة تعد بمثابة دعامات وركائز كمعادل موضوعي للصورة الشعرية المفقودة وحالة من التشويق للتتابع القرائي وهذا يعد ذكاء واضحا من الشاعرة لأبراز امكانياتها في الكتابة التجريبية فتستهويها المحاكاة مع الأشياء وهي تفرغ همومها وما تتعرض له من قمع من خلال بعض العناوين والمفردات تجعلها وسيلة للتعبير مثل . ( المقص كائن مفترس / الفستان / البخار / جدران الحمام / النافذة / المياه الآسنة / مقبض الباب / المرآة / الباب / الآخر المتخيل خلف الجدران / الحمالات وما تتركه من اثر على الظهر / الماكياج / العطر / النهد / السيقان ) .
حيث تقول الشاعرة في ص 31 ...
كنا فتيات , جعلتنا حمالات الصدر بنهود فاجرة بمعتقداتهم .
وتقول في ذات الصفحة اعلاه ...
لقد كان لايسمح بشرها على حبال الغسيل حتى لاتفقد طفولتنا مثل عصافير تطير هاربة من اقفاص , وحتى لايجتهد الشباب بالتلصص عليها , ولايسمح بأرتداء الفساتين والقمصان الشفافة , هكذا , ليختفي ظلها , خيالها , عن المارة .... ولا حتى يخلع اجسادنا منها إلا بوقت النوم وعلى السرير .
ابتهال بليبل تحاكي نظرة الآخر / نظرة العائلة التي تجعل الفتاة تخجل من ذاتها لا لشيء سوى انها خلقت فتاة وترتدي ماترتديه اي فتاة في هذا العالم الذي نعيشه فالأسيجة تكون حاضرة فقط على الأنثى التي لاذنب لها في تشكيلها الأنثوي .
هذا التداخل بين ماهو حياتي وفني اعطى النص الشعري توهجا اكثر . اضافة الى ان ابتهال بليبل لاتتلاعب بالمفردة في هذا الاشتغال الفني بل تتلاعب بالمعاني التي تخرج من الحدث الصارخ فهي الجمرة المتقدة التي تشعل فتيل النص وتعطيه اكثر تماسكا وتأثيرا لدى المتلقي تلك الكتابة التي تصل مثل البرق الى اذهاننا وتعطينا صورة ماثلة ومعبرة اكثر من اي اشتغال فني آخر انها الكتابة المختلفة التي اعطت الشاعرة تفردا وتميزا وسط الساحة الشعرية .