في (صحيفة المُتَلمِّس)
د. بوزيان موساوي- المغرب
1 ـ وصف المتن وسؤال المنهجية:
" صحيفة المُتَلمِّس " مجموعة شعرية من توقيع الشاعر العراقي عبد الأمير خليل مراد. صدرت في طبعتها الثانية 2020 عن دار الصواف للطباعة و النشر، بغداد- العراق. الكتاب من الحجم المتوسط (102 صفحة)؛ يتضمن إضافة ل "أوراقه الخارجية" 14 نصا شعريا.
على واجهة غلاف الكتاب يضع المُؤلِّف عبد الأمير كتابه ضمن خانة جنس"الشعر"؛ تصنيف قد لا يباركه الجميع، و قد يطرح عند الكثير من "المحافظين" إشكالية معايير "تجنيس" الأعمال الأدبية. وبما أن بُنى نصوص هذه المجموعة تخرج عن نمطية النصوص السردية الأدبية المتداولة، وعن قوالب "الشعر العمودي"، وشعر " التفعيلة"، سيكون من باب التجني على نصوص الكتاب مناولتها منهجياـ وصفا وتحليلا ـ بإسقاط " آليات نقدية تطبيقية " جاهزة؛ لذا نجد أنفسنا بعد القراءة السطرية الأولية الانطباعية لمجمل نصوص المجموعة أمام سؤال محوري: ـ كيف نقرأ كتاب " صحيفة المُتلمِّس "؟
تمّت هندسة بُنى جلّ مُتون هذه المجموعة على شكل نصوص طويلة أو متوسطة الطول (يفوق طول بعضها 10 صفحات وعلى شكل أجزاء بأرقام تسلسلية أو عناوين فرعية). وبذلك تختلف عن النصوص القصيرة التي غالبا ما تنساب على شكل فيض من حرف وليد لحظة مخاض وجدانية يعيشها الشاعر وينعم المٌتلقّي بتذوق جماليتها عبر قراءة "سطرية" عاشقة؛ نصوص هذه المجموعة تفرض مناولة تتجاوز "نحو الجملة" (Grammaire de la phrase) لتشتغل بمنطق "نحو النص" (Grammaire de texte) أي دراسة شبكة العلاقات على المستويين المورفولوجي/ التركيبي (morphosyntaxique) قبل تفكيك شفيرات وعلامات الأبعاد الدلالية (sémantiques) التي تحيل على إطارات مرجعية متعددة التمثلات، والرؤى، والمناهل والمشارب الشعرية/ الإستيطيقية الخالصة، والفلسفية/الفكرية، والتاريخية، والأخرى التي تفرزها ظرفية آنية حرجة. كما تفرض علينا نصوص هذه المجموعة إيقاعاتها الخاصة على مستوى النص الواحد بمختلف أجزائه؛ أو بتناغم النصوص برمتها كما الصدى يردد للتذكير لازمة "صحيفة المتلمس" (العنوان الرئيس للكتاب).
ـ مفاتيح:
نرسم عادة مسودة قراءة ممكنة على شكل توقعات أو فرضيات أو آفاق انتظار انطلاقا من العنوان الرئيس على واجهة الغلاف باعتباره "عتبة " أساسية. قواميس اللغة لم تسعفنا كثيرا لتكوين فرضيات قراءة محتملة ونحن نقرأ: ـ"مُتَلَمِّسٌ لِلْمَعْرِفَةِ : بَاحِثٌ عَنْهَا بِإِلْحَاحٍ وَرَغْبَةٍ شَدِيدَةٍ". صحيح أن مهمة فقه اللغة هي ضبط المعنى الحرفي لعبارة ما، غير أنه لا يملك أيّة سلطة على المعاني الثانية؛ لذا استنجدنا ب "ورقة خارجية" (ص.5) يخبرنا فيها الشاعر بأن "المتلمس هو جرير بن عبد المسيح بن عبد الله بن دوفن بن حرب، شاعر جاهلي، صحب طرفة بن العبد في رحلته من العراق إلى البحرين، غير أنه قذف بصحيفته في نهر الحياة، وراح هاربا إلى بني جفنة ملوك الشام، بعد أن عرف ما خبئ له في هذه الصحيفة من مصير." أي مصير؟ ما سكت عنه الشاعر هو أنه كان بصحبة الشاعر طرفة بن العبد حين أتاهما الكتاب من ملك الحيرة بقتلهما، ففتحه المتلمّس ونجا ولم يفتحه طرفة فقُتل. وبأنه لُقِّب ب "المتلمِّسِ" لبيت من شعره يقول فيه:
" وذاك أوان العرض حيّ ذبابه ــــــــــــــــــــــــ زنابيره والأزرق المُتَلَمِّس."
ويبقى السؤال مفتوحا: ـ أي علاقة بين قصة المُتلَمِّس ومحتويات هذه المجموعة الشعرية؟ هل هو التاريخ يعيد نفسه؟ هل تعرَّض الشاعر عبد الأمير لنفس مصير "المتلمِّس" ونجا؟ وهل من وظيفة لكذا تداخل في الأزمنة والأحداث؟...
2 ـ تداخل الأزمنة:
هي فرضية ممكنة لمقاربة هذه المجموعة الشعرية خصوصا لما نقرأ للشاعر ما يشبه قراءة للتاريخ:
" كمْ مرّ من الأزمان
وأنا كصياد يبحر في المخطوطات
(مخطوطات للحبّ وأخرى للموت)
أُحصي المدن الباقية (بابل، دلمون، الحيرة، سومر، وَأّكدْ)
والمدن الزائلة (نحن)
وتاريخ الأشخاص (ملوكا، صعاليك، غلاةً، شعراء)
من كلكماش إلى عبد الأمير... و... و... و
(...)
أتأمل أنقاضي ببراءة طرفة بن العبد
فلا أرى غير حاطب تلوكهُ حوافر
العنقاء..." (مقتطف من نص "صحيفة المتلمس". ص. 80 و 81).
يعيش الشاعر عبد الأمير خليل مراد (معَنا هنا/ الآن بالمفهوم الكرونولوجي) في "الألفية الثالثة"، ومن غياهب ذاكرته الشعرية تنبعث روائح نتنة تشبه الموت تُذكِّره بلعنة انتمائه لعصر "الجاهلية الأولى". ما الذي تغير؟ أو ما الذي لم يتغيرمنذ طرفة بن العبد إلى عهد عبد الأمير؟ هو نفسه الواقع بألف قناع حضاري/ عمراني/ بَشرِي تتحكمه قوانين "غاب" عبثي /سريالي عتيقة؛ تتكرر فيه نفس أحداث "المحاكمة" (Le Procès) بدون تهمة (غير تهمة الانتماء ربما) كما في مسرحية فرانز كافكا؛ واقع يَلْقى فيه الشاعر/ المثقف/ المتمرد الحامل للفكر الحرالمتنور نفس مصير "نورسٍ" دائم التموقع على مرمى رصاصة غادرة أو طائشة كما في مسرحية "النورس" (The Seagull) لأنطون تشيخوف. وكأننا كلنا طرفة بن العبد، كلنا الشاعر "المُتَلمِّس" نحمل "صحائف" تنطوي على "حكم إعدام" هو مصير رقابنا. وكأن لعنة "الجاهلية الأولى" قدرنا؛ لعنة انتماء تتحكمها جينات الاستبداد والقمع والاقصاء والقبلية والطائفية... لعنة تلاحق الشعراء والفلاسفة والمفكرين المتمردين على الأصنام من بشر منذ سفر التكوين إلى لا نهاية؛ نقرأ:
"قالوا:
ـ ما زالتْ للعشقِ بقايا
وأُصَرِّح: للعشقِ رؤوس
تصحو والحجّاج يُقَلِّبُها
وبقارب ليلِ منحوس
يقذفني لتخومِ الموت الأزرق
يُشعِلُ في عينيّ كوابيس المتنبي... سقراط...
المعري... الحلاج... السياب ودعبل
يُطعم أنقاضي لفتوحٍ أخرى..." (مقتطف من نص "الطائر المبهوث" الجزء 5 ص. 66).
عبر نصوص المجموعة، لا نركن إلى توقيت زمني محدد، ففي الوقت الذي ينطلق فيه النص من الحاضر نجد أنفسنا بإزاء ماضٍ يتسلط عنوة على الحدث (حدث اغتيال طرفة بن العبد، ونجاة المُتَلمِّس. غير أن الزمن الماضي "المُتخيَّل" في نصوص هذه المجموعة المعروف لدى الشعراء باسم "إيحاء"، أو "استحضار" ليس مجرد تحديدات ظرفية تطبع جدليا المؤثرات الدرامية على حياة الشاعر وذلك انطلاقا من عمليات الانتقال من اللفظي إلى التركيبي، ومن النظام اللغوي إلى النظام الدلالي تحت غطاء وشاح النظام الأدبي/ الشعري/ الجمالي، بل يدفعنا الشاعر عبد الأمير عبر ربوع هذه المجموعة الشعرية وفي أكثر من موقف إلى الاعتقاد بأن للتوظيف الفني لتداخل الأزمنة أكثر من دلالة؛ فهو يعتبر كما جاء على لسان أحد النقاد في سياق مشابه: "إنَّ القصيدة لا تحدَّد أو تُقاس بزمن الخطاب نفسه، أو بزمن النص، بل بتشابكهما مع زمن الموضوع، مع زمن التخيل، لأنه يدفع بالعلاقات الغيابية إلى واجهة الحضورية" في حركية قدام/ وراء/ فوق/ تحت كما على متن أرجوحة؛ نقرأ:
"ظِلّانا يقتربان من العتبة
هذا يتخلّقُ في نهر العمر...
خفِيا
والأخر يفتضُّ تخوم الوقت...
ويمضي
يتوزّع في فاتحة الخصب... فصولا
من خبز ودماء
هذا ظِلّكِ... أم ظِلّي...
أم نصل قتيل
يقذفني كالأرجوحة في الحلبة
ويلُمُّ بقاياي حقولا من شعرِ
ورُواء
يعبُر بي شطآن الوحشة والريح..." (مقتطف من نص"الأرجوحة" ص. 78).
هو تارة زمن صرخة داخل ضبابية الحلم/ الوهم/ الجنون تذوب فيه "الأنا" في ثنايا "الانتَ"؛ نقرأ:
"دعني.. أصرخ
أصرخ باسمكَ
من أعماقي المسكونة بالضجر
وأجير عيوني من صورتك الوهمية
التي تغزو ذاكرتي بلا استئذان
(...)
أنا... أنتَ
وأنتَ... أنا...؟
وكلانا مأخوذ بحلمٍ لم ينتهِ...
بعد... ! (مقتطف من نص "احتملات" ـ الجزء (1) ص. 11 و12.)،
وتارة بل وغالبا ما يتجاوز الزمن بعده النسبي المُحدّد بالأرقام لينفلت من مفهومه المادي المحسوس ويعانق مفهوم الزمن السرمدي/ الأبدي (أو اللا زمن) المقترن بمعجزة الخلق ولعنة المصيرالمحتوم؛ نقرأ:
"لا... لا لن يشطبني هذا الحقل الماحل
حتى لو غطى في الجُبِّ سنيني
فطفوفي خبز الصحو......... وأحمرها
كشواظ هتاف مُتّقِد
يفتضُّ الحُجُبَ المطوية مُذْ كان... وكان... وكان... !
ويُقَلقِلُ لمّا فارَ التنّور الأزمان
هذي قاف القاتِلِ واشْتُقَّ لها
كالضرعِ الماطرِ أُلّاف
من قابيل إلى الآن.... !" (مقتطف من نص "أرشية الطائر المبهوث" (الجزء 4) ص. 65)
ونظرا لضيق الحيز نكتفي مع الكثير من التلخيص بهذا المبحث حول "تداخل الأزمنة" على أن نتطرق لمحاور أخرى في قراءات مقبلة بإذن الله.