من ذاكرة الخوف
(( الحكاية الثانية ))
في عام 1987 كنّا معتقلين ومحجوزين من قبل اللجنة التحقيقية المشتركة ( الحزب ، المخابرات ، الأمن ) في سجن آمرية انضباط النجف ، كان السجن عبارة عن غرفتين لاتسع الواحدة منهما لثلاثين شخصا ، لكنهم وضعوا فيها أكثر من خمسين ، حيث ننام على شكل ركّاب المنشأة وبشكل صفوف جالسين في حضن بعضنا البعض ، والخروج إلى الحمّامات مرة واحدة في اليوم ، كان التحقيق يجري معنا بشكل مستمر كل يومين أو ثلاثة ، بعد مرور شهر ونصف على حجزنا في آمرية انضباط النجف ولتزايد أعداد المحجوزين تم نقلنا إلى قاعات الحجز في الديوانية ، قاعات طويلة ومتلاصقة مع بعض يفصل بينها الحمّام والتواليت ،بقينا فيها شهرا بدون أي تحقيق أو ما شابه ذلك ، قبل حلول عيد الأضحى بيومين وعند الظهر تم النداء بأسماء أربعين محجوزا من بيننا ، طلبوا منهم أن يجمعوا كل حاجياتهم ويخرجوا حالا ، بعد خروج زملائنا الأربعين بنصف ساعة دخل عدد كبير من الحرس والانضباط وأمرونا بالوقوف جميعا ثم الركض إلى الحافلات ،في تلك اللحظة تبادر إلى أذهان البعض منا هاجس ( تبييض السجون ) فراودتنا بعض نسائم الحرية لثوانٍ،، صعدنا إلى الحافلات المظللة تماما ، وقد أمرونا لحظتها بعدم رفع رؤوسنا أبداً ، ومن يجازف ويرفع رأسه يتلقى ضربة بعقب البندقية ، تحركت الحافلات ، حيث قطعت مسافة تقارب الساعة ونصف لتقف بعدها ، فأمرونا بالترجل دون أن نرفع رؤوسنا أيضاً ، ترجلنا راكضين ، وبعد مسافة أمتار أمرونا بالوقوف والجلوس ، ثم قالوا :ــ ارفعوا رؤوسكم !!
ما أن رفعنا رؤوسنا حتى شاهدنا عشرة من زملائنا الذين نادوا عليهم في البدء مشدودين على الأعمدة ، ثم بدأت المأساة ، تقدّم عدد من الحرّاس ليطلقوا النار عليهم ، بعدها تم سحلهم إلى مكان آخر ليجيئوا بعشرة آخرين ويشدونهم على الأعمدة أيضاً ، وعند إعدام زملائنا الآخرين انتابتني حالة صرع مفاجئ فأغمي عليّ ، ولم أفق إلاّ ونحن في القاعات مرة أخرى وزملائي يرشّون الماء عليّ وهم يبكون، كانوا يبكون على زملائنا الذين اعدموا قبل قليل ، ويندبون حظهم لأن مصيرهم سيكون مثلهم حتما ، بتنا ليلتنا والقلق واليأس معرّشان على نفوسنا ، حيث مرارة الموت في حلق الواحد منا بعد مشاهدة زملائنا وهم يعدمون ويسحلون وقد رثاهم احدنا ببيت من الدارمي قائلا :ــ
أكشر يهذا العيد وأيامه كشره
عدموهم ارسالات عشرة اعله عشره
ظلت حالات الصرع تنتابني بين آونة وأخرى ، وبعدها بأيام تم نقلنا إلى سجون وحداتنا العسكرية وقتها لكوننا جنودا ،، بانتظار المحاكمة .
لم أبرأ من الصرع إلاّ بعد سقوط النظام الفاشي ، وشروق شمس الحرية التي انفرطت أشعتها من بين أرواحنا ونفوسنا بفعل الفاسدين الذين سرقوا منا فرحة التخلص من كابوس مرعب !!!