شَرَكُ التوصيف
ومٱلاتُ المصطلح النقدي
( السرد المفتون بذاته) انموذجا
عبد علي حسن
شهدت ثمانينيات القرن الماضي انفتاح النقد العربي علىٰ ما أنجزه النقد الغربي من مقولات ومناهج نقدية جديدة بنيوية ومابعد بنيوية وتبنّىٰ عديد النقاد العرب لتلك المقولات والمناهج انطلاقاً مما استجدَّ من ابداع جديد في البنية الثقافية العربية ، وإذا ما أخذنا بنظر الإعتبار أن الميدان الٱجرائي للجهد النقدي الغربي ٱنذاك كان الرواية بصيرورتها الجديدة والقصة القصيرة والقصة القصيرة جدا وقصيدة النثر ، ومحاولة الخطاب الإبداعي العربي لمحايثة الخطاب الإبداعي الغربي والاقتراب منه في المجالات الإبداعية المذكورة ٱنفاً ، وهي جميعها قد تم ترحيلها من بيئتها الغربية الىٰ البيئة الثقافية العربية مثلما ترحّلت إلى البنى الثقافية للمجتمعات العالمية من خارج جغرافية إنتاجها ، لذا فإن النقد العربي كان ولايزال محقّاً في تبنيه لتلك المقولات والمناهج ، إذ أن. تلك الأجناس والأنماط الإبداعية المرحلة الينا قد توافرت على مقبولية ثقافية ومجتمعية فضلاً عن ورود منظوماتها النقدية واصطلاحاتها التي اجتهد الجهد الترجمي العربي في بذل أقصىٰ مايمكن لمقاربة تلك الإصطلاحات وبما يضمن يقينية صحة المفاهيم الدلالية التي يمكن وفقها مقاربة المنجز الإبداعي العربي الجديد ، وعلىٰ الرغم من تأكيد مجاميع اللغة العربية في الدول العربية على ضرورة توحيد المصطلحات الواردة ، وصدور العديد من معاجم المصطلحات التي تمكنت من تثبيت مفاهيم تلك المصطلحات والاتفاق على مسمياتها ، فإننا نشهد محاولات الخروج علىٰ ما اتفقت عليه تلك المعاجم وما اجتهدت علىٰ تسميتها مجاميع اللغة العربية ، حتىٰ صار لكلّ ناقد مصطلحه الذي يبغي منه التميز أو المساهمة في وضع المصطلح ، فصار الغرب ينتج وصرنا نصطلح كما نشاء ونهوىٰ دون الشعور بالمسؤولية وضرورة المواضعة لوجود مصطلحات واحدة متفق عليها ، وتكمن خطورة هذه العشوائية في تضليل المبدع والناقد على حدّ سواء في ملامسة وتشخيص الاشتراطات الإجناسية لهذا الشكل الإبداعي أو ذاك ، فحصل ويحصل من التباس وانتهاكات واختلاطات في تكريس المصطلح والمواضعة على استخدامه ، وسبب كل ذلك كما نراه هو الوقوع في شرك التوصيف واعتماد المفاهيم مسميات لتلك المصطلحات بعيداً عن ما اتفق على تسميته في البيئة الثقافية التي أنتجته ، ليكون المدلول هو المصطلح وباختلاف المفاهيم فإننا إزاء اختلافات واختلاطات عديدة على مستوى المصطلح الواحد ليسيح المصطلح تحت رحمة المفاهيم الخاضعة إلىٰ اجتهاد وهوى هذا الناقد والباحث أو ذاك ، وينشأ عن هذا الوضع عشوائية ولاموضوعية الاستخدام الأمثل والصحيح للمصطلح ، ولا أدلّ من ذلك الفوضىٰ والعشوائية في استخدامات مصطلح الشعر الحر وقصيدة النثر والنص المفتوح وجامع النص والرواية التأريخية وسواها من المصطلحات التي وفدت إلى البنية الثقافية العربية من الٱخر الذي أنتجها وفق ظروفه الموضوعية والذاتية ، وجرىٰ التفاعل معها وتبنيها في الدراسات والبحوث النقدية ، إلّا أنها تعرضت الىٰ محاولات لاستبدالها أو تعريفها وفق دعوىٰ ضرورة إيجاد مساهمة عربية لوضع مصطلحات جديدة وتعريفها ووضع مفاهيماً لها جديدة أسهمت في أحداث فوضىٰ وتناقض حتى مع مفاهيم المصطلحات الأساسية التي وضعت من أجلها ، إذ لم تحض تلك الاجتهادات بمبدأ المواضعة الجمعية ، فظلّت محتكمة إلى اجتهاد هذا الناقد أو ذاك مما أحدث بلبلة والتباساً في. استخدامها ، ولعل من بين هذه المصطلحات هي مصطلح ( ميتا رواية) و(ميتا قص) و ( ميتا سرد ) التي كانت موضوعاً لكتاب ( السرد المفتون بذاته . من الكينونة المحضة إلى الوجود المسرود) للدكتور رسول محمد رسول الصادر عن تنويرات للنشر / الكوفة/ ط الثالثة 2021 ، الذي بذل فيه جهداً كبيراً في الإحاطة بهذه المصطلحات غربياً وعربياً ، متقصياً ظروف نشأتها وظروف إنتاجها في البنية الثقافية الغربية على يد كوكبة من النقاد والمفكرين الذين اسهبوا في وضع المفاهيم الخاصة بها ، وكذلك جهود النقاد العرب ومساهمتم في طرح رؤاهم المفاهيمية لهذه المصطلحات ، ولئن كانت الإحاطة بهذه المصطلحات والمفاهيم قد امتدت على مساحة الفصلين الأول والثاني من الكتاب فإن الدكتور رسول محمد رسول يطرح في الفصل الثالث مصطلحاً يراه جديداً وجامعاً المصطلحات الثلاثة الٱنفة الذكر ، وهو مصطلح ( السرد المفتون بذاته) بديلاً إجرائياً لهذه المصطلحات ، علىٰ أن الصفحات الأولىٰ من الكتاب قد تضمنت هذا الطرح ، وتحديداً في الصفحة الثامنة منه ، حيث يشير إلى ( أن السرد المفتون بذاته هو وجود ابداعي متخيّل وقد تحوّلت كينونته المحضة أو الأساسية إلى موضوعة حكائية من خلال تمفصلها في مسالك اجناسيا جمالية حكائية كالقصص والروايات والمسرحيات ، تلك التي تتضمن حكاية تالية أو حكايات داخل حكاية كبرىٰ يتدخل فيها معمار الكتابة ، وأحوال الكاتب ، والقارية ، والمقروءة ، والناقد ، والناس أو المؤلف والنشر والنشر والمنشور ، والمخطوطات والملفات ، والرسائل والمصاريف والصور الفوتوغرافية ، واللوحات التشكيلية كفواعل وعوامل مسرودة في عمل ابداعي متخيّل وممهور بعنوان مركزي هو عنوان لقصة أو رواية أو مسرحية )1 ، وفي الصفحة 22 من الكتاب يشير الىٰ أنه ( سنصطفي في أجوائها _ المصطلحات الثلاثة _ مفهوم (السرد المفتون بذاته) كمصطلح مقترح للغة العربية يمكن أن يعبر عن دلالة خطاب المصطلحات الثلاثة مجتمعة )2
أن تثبيت هذا المقترح البديل للمصطلحات الثلاثة دليل واضح علىٰ المدلول الواحد لها وهي الرواية داخل الرواية أو رواية الانعكاس الذاتي وغيرها من المفاهيم التي تم استنتاجها من المصطلحات المطروحة والتي حازت على المقبولية والمواضعة حتى دخلت الى المعاجم السردية بذاتها ، كما أن دالة العنوان ووجود هذا المفهوم في الصفحات الأولى من الكتاب تشير إلى الهدف من وضع الكتاب وهو الدعوة إلى هذا المصطلح الذي يراه جديدا وجامعاً مانعاً للمصطلحات الثلاثة ، ولو امعنّا النظر في المفهوم أعلاه لوجدناه صدىٰ لكل المفاهيم التي طرحها النقاد الغربيون والعرب في مؤلفاتهم وإجراءاتهم النقدية والبحثية ، ولعل الفقرة أعلاه تكشف عن مفهوم المصطلحات الثلاثة وتقف إلى جانب المفاهيم الأخرى الغربية أو العربية وربما هي إعادة إنتاج لها .
وفي الفصل الثالث من الكتاب يطرح الدكتور رسول محمد رسول مقترحه الإصطلاحي بشكل موسع كيما يوفّر قناعة للمتلقي بصحة المصطلح الذي يقترحه ، فيشير ( تراني في هذه الدراسة اترجمها إلى ؛ السرد المفتون بذاته؛ فأُظهرُ التعريفات الموروثة والخاصة بهذه المصطلحات ترى في ( كل مايدور حولي السرد ، إنما هو سرد واصف السرد ، السرد الذي يتضمن سردا يشكل جزء من موضوعه أو موضوعاته هو ميتاسرد ، لاسيما السرد الذي يحيل على نفسه والعناصر التي يتشكل بواسطتها ، وينجز تواصلاً يبتغيه ، سرد يناقش ذاته ، وينعكس على ذاته )3 ويبدو أن التعريف الٱنف الذكر هو التعريف الجامع لكل التعريفات والمفاهيم التي أسهم في صياغتها نقاد الغرب والعرب على حد سواء كمدلولات لمصطلحات ( ميتا سرد ، ميتارواية ، ميتا قص ) وفي ذات الصفحة يشير إلى أنه سيحاول (إعادة بناء دلالة مفهوم ماوراء السرد بكل ماتضوع به مصطلحاته الثلاثة من دلالات ، التي ظهرت حتى الٱن ) ويتبدى هنا التناقض الواضح بين محاولته ترجمة المصطلحات الثلاثة إلى ( السرد المفتون بذاته ) وبين محاولته (إعادة بناء دلالة مفهوم ) المصطلحات الثلاثة ، كما يتبدى هنا الجمع بين المصطلح والمفهوم في دلالة واحدة ، وبين هذا وذاك فرق كبير ، فالمصطلح باللغة الإنكليزية (Term) وهو عبارة عن اتفاق لغوي بناءً على صيغة محدّدة يتم بين مجموعة من الأفراد المتخصٌصين بعلم معين ، أو هو الوصف اللغوي الثابت لشيء ما ، والذي يساهم في توضيح معناه ، ويصبح مألوفاً بين مجموعة من الأشخاص في مجال ما ، أما المفهوم الذي يعرف بالإنكليزية باسم ( Concept) وهو عبارة عن جملة تحتوي على مجموعة من الكلمات التي توضح معنىٰ شيء ما (المصطلح) ، وهو _ المفهوم _ مجموعة الأفكار ، والٱراء المرتبطة بشيء ما والتي تهدف إلى المساعدة في جعلها مفهومة بشكل أكثر وضوحاً ، وعادة ما يعمل على وضع المفاهيم أصحاب الإختصاصات والدراسات بالإعتماد على تحليل مجموعة من الأسس والمعلومات حول موضوع ما ،4 ولعل أبرز الإختلافات والفروق بين التعريفين لكل من المصطلح والمفهوم الٱنفي الذكر هي حيازة المصطلح على مبدأ المواضعة والاتفاق بين أصحاب الإختصاص وتثبيته في المعاجم المختصة بهذا العلم أو ذاك ، وكذلك تمتع المصطلح بخاصية الثبات في حين أن المفهوم هو شخصي يتضمن تعريفاً وتوضيحاً للمصطلح ولايشترط فيه الثبات والمواضعة ، لذلك فالمفهوم متغيّر تبعاً للمتغيرات والمعطيات الجديدة التي تظهر لاحقاً في النصوص السردية التي تذهب في رؤيتها وتقنياتها إلى ماوراء السرد وان اختلف الزمان والمكان ، وكذلك فإن المصطلح يركّزُ علىٰ المعاني اللفظية ، ويحرص على توضيحها ليسهل فهمها ، في حين يركز المفهوم علىٰ الاستنتاجات الفكرية التي تم التوصل إليها ، لذلك فإن كل وجهات النظر المتعلقة بالمصطلحات الثلاثة ( ميتاسرد ، ميتا قص ، ميتا رواية ) التي وضعها النقاد الغربيون والنقاد العرب أن هي إلّا مفاهيم وتعريفها للمصطلحات منذ ظهورها في البنية الثقافية التي أنتجتها في ستينيات القرن الماضي كمصطلحات قارّة في النظرية الأدبية وحيازتها على المقبولية والمواضعة ودخولها إلى معاجم النقد السردي ، كما في (المصطلح النقدي / معجم المصطلحات ) لجيرالد برنس/1987 وترجمة عايد خزندار / المجلس الأعلى للثقافة / القاهرة 2003) ومعجم المصطلحات الأدبية الحديثة / الدكتور محمد عناني / المصرية العالمية للنشر / مصر ط الثالثة 2003,
ونستعرض ثلاثة مفاهيم لثلاثة من اهم النقاد والباحثين الغربيين لمصطلح ميتا قص وميتا رواية ، فقد أشار روبرت شولتز في مقالة وصف فيها مصطلح الميتارواية بأنه ( رواية تخييلية ذاتية الإنعكاس) ، ووصفها بأنها رواية تخييلية اذا ماكانت عن شيء معين ، فهي عن إمكانات ومحدوديات التخييل الروائي ذاته ..النص )5، وتصف باتريشيا واو ماوراء القص بأنه ( كتابة رواية تلفت الإنتباه بانتظام ووعي إلى كونها صناعة بشرية وذلك لإثارة أسئلة عن العلاقة بين الرواية والحقيقة ،) ،6 ، وتعرف الباحثة الكندية ليندا هتشيون ماوراء القص بأنه ( رواية عن رواية ، اي تلك الرواية التي تتضمن تعليقاً على سردها وهويتها اللغوية )7 ، فضلاً عن المفاهيم والتعريفات لهذه المصطلحات الثلاثة التي وضعها النقاد والباحثون الغربيون منذ منتصف القرن الماضي كجورج هاميل وجيرار جينيت وجيرالد برنس وتودوروف وشلوفسكي وليوتار وسواهم فقد عمل هؤلاء الباحثون والنقاد على ( بلورة رؤاه ومساراته النظرية والتأويلية في الثقافة الغربية وبناء مفهوم ( ماوراء الرواية ) أو الميتاروائي أو (رواية النص) أو (ماوراء القصة ) أو( ماوراء السرد) منذ ستينيات القرن العشرين على صعيد الفكر النقدي والسردي الغربي) 8،
إذ كانت تلك المفاهيم تعريفات دلالية للمصطلحات القارّة معجمياً ، وان اختلفت في الصياغات اللغوية إلا أنها كانت مفاهيماً خاصة بكل واحد منهم وضمّنوها في كتبهم البحثية والنقدية ، وإن اختلفوا في المفاهيم الدّالة على المصطلحات الّا أنهم متفقون على التسمية ودلالتها اللغوية وتواضعوا عليها ودخلت في المعاجم اللغوية والنقدية والسردية بذات التسمية ، أما النقاد العرب فقد اتفقوا أيضاً على التسمية وترجمة تلك المصطلحات ، فقد ضمّن الناقد فاضل ثامر مصطلح ماوراء الرواية عنوان دراسته حول رواية امرأة الضابط الفرنسي لجون فاولز ونشرت في إحدى الصحف المحلية في أغسطس 1991 بعنوان (الرواية النرجسية ..ماوراء الرواية وخرق التقاليد السردية )، كما ترجم الناقد المغربي الدكتور سعيد يقطين المصطلح نفسه ب الميتاروائي عام 1993، كما ترجمه د.محسن جاسم الموسوي برواية النص والى ماوراء الرواية ، كما فضّلَ الناقد عباس عبد جاسم مصطلح ماوراء السرد لشموليته كما أشار الدكتور رسول في كتابه ، وكل هذه الترجمات حازت على اتفاق بين النقاد والباحثين العرب ودخلت الى المعاجم ، وان اختلفوا في تعريفاتها ودلالاتها ، إلّا أن تلك المفاهيم والتعريفات لم تخرج عن منطقة المفاهيم التي وضعها منتجو هذه المصطلحات من النقاد والباحثين الغربيين والمستنتجة من معطيات المنجز الروائي لمابعد الحداثة وتحديدا الميتا رواية .
وتأسيساً على ماأسلفنا من قول فإننا نسجّل تقديرنا لما بذله الدكتور رسول محمد رسول من جهد أحاط بمصطلح الميتارواية والميتا قص والميتاسرد وتتبع نشأة المصطلح والإفاضة في إيراد الجهود التي بذلها النقاد والباحثون الغربيون ومساهمة الحركة النقدية العربية في وضع التعريفات والمفاهيم الدلالية لتلك المصطلحات ، ونرى بأن الدكتور رسول قد طرح مفهوما خاصا به للمصطلحات الثلاثة يُضاف إلى المفاهيم التي وضعها النقاد الغربيون والعرب ، ولايمكن عدّ هذه المساهمة المفاهيمية مقترح (السرد المفتون بذاته) كمصطلح جامع للمصطلحات الثلاثة كما حاول طرحه في كتابه ، لأن المصطلح ثابت ومايتغير هو المفهوم تبعا لصيرورة المنجز السردي المشتغل في نمط الميتاسرد ، ومايسفر عنه من محاولات تجريبية جديدة من الممكن استنتاج مفهوم جديد يُضاف إلى المفاهيم والتعريفات السابقة .
احالات
_________________
1-- السرد المفتون بذاته ..من الكينونة المحضة إلى الوجود المسرود /تنويرات للنشر/ الكوفة / ط الثالثة 2021 / ص 8
2-- ن.م ص 22
3-- ن.م ص 237
4-- بين المصطلح والمفهوم / محمد خضير / موقع موضوع /2014
5-- السرد المفتون بذاته ص21
6-- ن.م ص 61
7-- ن.م ص 52
8-- ن.م ص 75