للشاعر ابراهيم الخياط " الله يرحمه"
شاعر جمهورية البرتقال
" النص بين الدراما الحياتية وتشكيل الذات الكاتبة"
قراءة عقيل هاشم
....................
(على الغلاف الأخير رأيا للناقد “فاضل ثامر” قال فيه : (إبراهيم الخياط شاعر يمتلك صوتا مميزا بين أقرانه؛ شاعر يذكرني بالسياب وبسعدي يوسف، فهو يمتلك ناصية اللغة ويجعلها تتصدر التجربة الشعرية . ولغته تراثية أنيقة قلما يقترب منها شاعر مُحدث ؛ ربما فعل ذلك السياب ؛ لغة قد تكون “جواهرية” في نصاعتها وإشراقها . هو شاعر مهموم بالحياة ؛ مهموم بالقضية، مسكون بحب الوطن، بحب الأرض، ولذا تجده دائما يقيم هذه الحوارية بينه وبين المستقبل، بينه وبين الآخر، بينه وبين الإنسان في تدفق شعري قلما تجده بين مجايليه من الشعراء. إنه تجربة شعرية خاصة بحاجة إلى معاينة) .
جمهورية البرتقال مجموعة شعرية للشاعر ابراهيم الخياط ضمّت المجموعة خمسة وعشرين نصا منها: كاسب كار، جمهورية البرتقال ، تروحن، زينب، هو الذي رأى، النبي الصامت، إفلاطونيا، بعقوبة، على حائط حنا السكران ....الخ. يبحر الشاعر في مجموعته الشعرية نحو المكنونات الداخلية لصدى ذكرياته. فيتجاوز المراحل المتقدمة من العمر، وصولاً إلى الطفولة وتفاصيلها الآخذة بالإلحاح. فيعبر المسافات حتى يستقر أخيراً في روحانيات من شأنها أن تبعث على الحنين والألم. مقاوماً للقهر، باكياً على الطلل، خائفاً من مجهول صار واقعاً.
تأتي المجموعة لتفتح النوافذ والأبواب الموصدة أمام ذكريات الشاعر الحياتية في واقعه المعيش ليحيا دون شوق أو ألم. وهذا واضح ابتداء من العنونة..و العنوان وظيفة مفتاحية في فهم النصوص، أو يختزل مضمونها، وبعضها مأخوذ من اللغة المتداولة ، وإن هناك تماهياً بين «السيرة الذاتية » وقضايا مصيرية –الوطن والوجود الموت ...الخ والتي تسيطر على غالبية النصوص..
قد يكون مفيداً إذ نباشر الكلام عن تجربة شاعر بحجم ابراهيم الخياط الشعرية ،إنه عمل مفصليّ يفتّح الذهن على حساسية التركيب الشعري وعلاقة هذا التركيب بالذات تحديداً. والرؤية، ابتداءً يعود إلى كونه مفصلاً في الكتابة لجهة تصاعد نبرة الشاعر المنهزمة بحساسيتها العالية واتخاذها سياقاً في مجمل قصائد الشاعر . نعني تلك النبرة التي تكون رثاءً من المشهد نحو مساحات أكثر هامشية وهي نبرة تعكس في الواقع توطئة الشاعر لانتقاله من مدينته البكر (بعقوبة) الى (العاصمة). إنها نبرة تحفزّها مناخات اليأس من مآلات الموطن التي هي خيبات عبثية. عدمية تجد لها متنفساً في المقاطع وتقولب رؤية الشاعر إلى وجود ذاتيّ وموضوعيّ يصير في كل لحظة عبئاً مضاعفاً.تكاد نصوص الشاعر أن تكون نبرة ذاتية متّسقة. بين إيقاع بالغ الخصوصية يسم تجربة الشاعر. وسيرة الذات المفصّلة والمتشظية بين – الذاتي والموضوعي - تأخذ النصوص شكلها الفني من الطابع السّيري ، حيث يجعل الشاعر/السّارد من مدينته الاولى استعارة لنصوصه وهي تَنشدّ في بؤرة الحدث، فقد ارتبط اسمه ومولده فيها.
اقتباس
شاعرا أطلقت قلبي
وسميت عشقي برتقالا
أسكنت حرفي
حيث اختلاف الدروب (الضجة الصديقة) ص15/16
هي رحلة الشاعر الاولى حين يخالط ناسه ويشهد على طقوسهم في الأفراح والأتراح ، ويعيش المكابدات فيها ، حياة مترعة بالتفاصيل حتى يصير صوفيا ويقع في حبها ومعا حين يواجه صلف الواقع، ويرتحل في الزمان والمكان .هذه النصوص . تطرح، ببراءة وبراعة، صورا حياتية، وحالات إنسانية، شيقة وشائكة، تلامس الواقع بقسوته، والخيال بنعومته، في حضرة الوجد ، لتصنع يوتوبيا الشاعر والتي تلفت الانتباه .
اقتباس
أحرقت دمعي
(وهل كان دمعي غير ماء؟) (الضجة الصديقة) ص15
(بعقوبة) الذكرى والحنين . وليس ذاك الحنين النمطي بل هو شكل من أشكال الاشتباك الجمالي مع الغائب الملتهب في أعماق الذاكرة. وهي المدينة البكر التي تكون قابلة من خلال لعب لغوية للتمثل والتوظيف في النصوص خارج كاتولوغاتها النثرية المعروفة. إنّها الحبل السري وهي ايضاً وجه من وجوه الجسد وضلوعه أو الغرفة أو الجدار أو إنّها الأم والأب و/أو غبار الاصدقاء المفقودين…
اقتباس
وقفت على بابها الحميم، لأقيس ارتفاع
الدمع في جزرة نهرها المعلول فلطالما
شيعتني هذه الثكلى الطروب ـ التي أسميتها
مدينتي وسمتني جوابّها المقيم ـ شيعتني فوق مشابك
عرباتها الأجيرة نعشا مزدهرا بالألوان
المستطيلبة (بعقوبة) ص127
هذه الرقة المفعمة بالعبارات والمفردات، تخفي ألماً حوّله الخوف إلى قسوة. فتحوّل الهمس إلى اعترافات مريرة. وألقى ما في جعبته أمامنا، نحن الذين صدمنا بقدرة اللغة على التعبير عن القهر والعشق للنهر في آن واحد. وكان كلما حاول أن يبوح ويعبّر بالكتابة، تأكله الذكرى تارة، وتحييه تارة أخرى.
اقتباس
بين الأسى
واستدارة النهر الذبيح
كانت خطاي
تنبئ بالجفاف
وتقرأ سورة الماء المدمى (جمهورية البرتقال) ص25
قد يتمنى قارئ هذه النصوص ألاّ تنتهي لما فيها من متعة تلازمنا على امتداد تلك النصوص المكثفة بلا إ
خلال، والمعتقة بلا إقلال، والمتنوعة إلى حد بعيد، والتي تنم ليس فقط عن خبرة مؤلفها في إبداعه، بل أيضاً عن تجاربه الحياتية وذكرياته ،اما عن الاقتباسات فقد شرع الشاعر بالاتكاء على نصوص من القران الكريم وتوظيفها في نصوصه ،هذه الالتناصات وهذا التنوع الحياتي المبثوث في شعر بازخ وجمال جـــارح، حـــزين، ينزف إلى ما لا نهاية قد مكن النص الشعري من ان يصبح اكثر قدرة على التقبل والاستحسان .
اقتباس
قاب قتلين أو أدنى
فحق عليه القول
بعد أن فرهت أحلامه
ونحت به عن جزيل افتقاره (كاسب كار) ص11
ساحت بحربين زئبقة أيامي
وإذ ينام الوطن
كان سريري الموحش ملقيا
أيكي عليه نثيثا (مدمي الشباب) ص35
الشاعر يصوّر الوطن وفق تجربة ذّاتيّة ،إلا أنّ هذه التجربة تتجاوز الخاص نحو العام، ولم يكتفِ الشاعر بتلك التنويعة بين عالمين الموت /الحياة ، حيث يعرض وبشكل مأسوي ساخر سيطرة الاتظمة الغاشمة على شبابها حين ترسلهم الى الحروب.
اقتباس
ولا تدري
لمن تشي
بالزغاريد المحبوسة في حناجر الثكنات
وهي ترى
الشارع الممتد
من أقصى الضاد إلى أقصاه
ضاجا على الاسفلت الأخرس
كخشب الكراسي العربية (زينب) ص64
هكذا يكشف الشاعر زيف الشعارات باعتبارها قشورا وأقنعة يرفعها البعض المثقفين بينما ترقد وراءها ملامح دميمة،هذه الحروب العربية وعلى مر التاريخ فقد حصدت من ورائها أرواح آلاف الأبرياء، ودمرت البنية التحتية وأغلب المدن والمباني التاريخية، إضافة إلى تدمير النسيج الاجتماعي والاقتصادي ، بفعل الانظمة التي لم تتورع عن القيام بكافة أعمال العنف لشعوبها بما فيها ممارسات الإبادة الجماعية.
اقتباس
عيناك خردلتان
والحرائق طائرات
فهل جادك الغيث
عندما الموت همى (واحدة لا تكفي) ص41
كم من الحكايات الإنسانية التي تعد وفقا لتلك النصوص الشعرية ، وصمة عار ستسجل في تاريخ الإنسانية التي تتغنى ليل نهار بالحضارة. كما يرصد الشاعر عددا من الحالات الإنسانية التي واجهت شعوبها الكثير من المآسي والمواجع. أن هذه النصوص لا تدعونا للبكاء بقدر ما تدعونا للتأمل ومعرفة واقعنا الراهن.
اقتباس
شريكين كنا
وكأن كل البرايا ضداد
شريكين بلا ليل
فيغمرنا من فجر الحروب
سواد
شريكين ولا منية لنا
سوى دار (تفعيلة الخذلان) ص141
والحرية هنا لا تقتصر على مجرد ممارسة الحق السياسي بأشكاله المختلفة بل تتجاوز ذلك إلى وجوه اجتماعية متعددة تجعل الإنسان شبه مستعبد فيها باسم السلطة الذكورية وباسم التقاليد الاجتماعية والمفاهيم التي يسميها البعض دينية.
اقتباس
في نادي الببغاوات استراحت
كلماتي قليلا ثم اعترضت كاحتجاج
الديكة على ليل الرفيق… (نادي الببغاوات) ص57
القصيدة دفقات من المشاعر يبث من خلالها شاعرنا لواعج المه للوطن يعزفها كلحن حزين ، وهنا هذه النصوص تنتج أشكالا وصورا وأنماطا تعبيرية - حوارية، تطلق «رسائل»بادانة هذه الحروب وهوخطاب مناهض للحرب وبالمقابل البناء والاعمار هما اللغة المشتركة بين الشعوب .
اقتباس
صرتَ جثة تسعى
حين زلزلت الطائرات اللاهبات قاع دجلة
صرتَ جثة تسعى حين داهمك الجوع القاتم
حتى نسيتَ أن هويتك تجهر بانتمائك لأرومة النفط
صرت جثة تسعى بين الصدى والصلوات
بين ريح النفايات ورياح البساتين المهجورة – ص 149) .
وختاما، الشاعر في نصوصه قد زاوج بين ألمين :ألم الذات ووحدتها في عالم يفتقد للرحمة والاحساس ،وألم الوطن الذي كان ولا يزال ينزف دما وحرمانا وقهرا وعزلة . اقول ان الشعريّة التي في نصوص الشاعر هي تجريب أو صناعة معجمية شاقة أو شغل لغوي. تبدو جملته سحراً مكتملاً منساباً بثيماته المحددة. كما أننا نلحظ في النصوص ذلك الزخم الداخليّ الحزين والموحش الذي لا يطفو، بحال من الأحوال، على السطح بل يبقى كامناً في أحشاء النصوص ويمارس هذياناته الخافتة والمكتملة على المتلقّي ، أنها نصوص محنة من الاحتجاج والفقد..
.........................
*ابراهيم الخياط” كاتب وشاعر عراقي، ولد في 1960 في محافظة ديالى، تخرج من كلية الشريعة ـ جامعة بغداد، صدر له ديوان (جمهورية البرتقال) عام ٢٠٠٧ ، كان يكتب عمودا صحفيا بعنوان (تغريدة الأربعاء)، توفى الشاعر الأربعاء، إثر حادث سير في محافظة دهوك عن 59 عاما.