(المنازل تبحث عن أقفالها)
د. سلمان كاصد
ماالذي جعل رواية " وردة" لصنع الله إبراهيم تثير رغبة النقاد في أن يبحثوا عن سر جمالها ، ومديات اختلافها عن السائد مما يكتب ؟
سؤال يمكن الإجابة عنه باختصار ، إنها الوثائق والأحداث التاريخية التي ثبتتها المصادر التي تصادق على حدوث الواقعة وهي قصاصات أوراق ، جرائد ، أحداث شفهية أو مكتوبة ، أفلام ، كتب مؤلفة ، تلفزيون ، سير ذاتية مروية بأسانيد شبه صحيحة.
كان صنع الله ابراهيم يوثق الواقعة الروائية بما يقابلها من واقعة تاريخية وكأنه ينسج نصاً ، وبذلك تتحقق معادلة ترى أن نص الواقعة الافتراضية يوازي النص التسجيلي .
الرواية تصبح هنا صنعة ، تعتمد الوقائع لكي تقدم صدق الفعل فيها ، والذي يستمد كينونتة من صدق الوثيقة ، وكأنهما يتجاوران في لحظة السرد بين التاريخي والافتراضي.
هذا هو الاختلاف والابتكار الذي جاء به صنع الله إبراهيم في " وردة " .
ولكن من الذي ذكرني بتلك الرواية البعيدة ، والتي منعت في فترة ما ، من قبل الحاكم والسلطة العمانية عن التداول ، حيث سحبت من السوق وقت صدورها . لقد ذكرني بذلك النص الروائي الذي كتبته رغد السهيل في إصدارها الجديد وهو رواية " منازل ح١٧ " التي استخدمت فيها الوثيقة ، والكتاب التاريخي ، والمعلومة السردية في مظانها التسجيلي عبر صفحات المخطوطة الدينية التي تحتفي بالتاريخ جزءاً من مصداقيتها العرفانية . والتي حين ننظر لها شغوفين بكل مايجعلها أكثر واقعية .
السيرواية
كل ذلك يحصل ضمن إطار سيري روائي تتخلى السيرة فيه عن بعض وقائعها ، وتتخلى الرواية عن بعض افتراضها ، ليندمج العنصران معاً كي يكونا حدثاً مقنعاً ، ينهل من هذا الجانب أو ذاك الآخر .
تبحث رغد السهيل وتنسج نصا روائيا يتناول حياة وفكر وتوجهات وقناعات امرأة ، كانت خطواتها خارج المألوف في زمن كان اللامألوف هو المألوف في حياة المجتمع السكوني " الاسلامي وعلاقته بالمرأة.
إنها " قمر الزمان / قرّة العين " أحد قيادات الحركة البابية والبهائية التي ظهرت في النصف الأول من القرن التاسع عشر في قزوين بإيران باسم روائي مجاور " قمر الزمان " وقد وظف توظيفا عضويا ودلاليا.
تلك المرأة التي نشأت في بيت يمتلك ضوابطه الدينية التسلطية والتي لامجال فيها بالنظر المغاير أو الاجتراح والمعارضة الفكرية ، فالثابت هو السائد والاختلاف هو الاستثنائي الذي لن يحدث .
تخطت رغد السهيل القوانين التاريخية إلى ما ليس قانوناً، وتجاوزت الأسطرة والوقائع إلى ظلالها ، بالرغم من أنها لم تخرج عن التوثيق الديني إلا إلى اللاتسلسل التاريخي حين تلاعبت بالوقائع تقديماً وتأخيراً ، من أجل أن تخلق نصاً يستدعي ذهن المتلقي كي يطرح تساؤلاته بل ليرتب الأحداث خارج إطار المقروء .
مابين الأنثى المتمردة في وقائع الرواية ، والأنثى المتشبثة بإطار الأعراف الايديولوجية شيدت رغد السهيل شخصية " قمر الزمان / قرّة العين "
امرأة داعية لفكر تأويلي مختلف عن السائد المرتبط بالسلطة ، الذرائعي الذي رفضتة هذه المرأة ذو التسلسل ( ١٧ ) من بين دعاة النظرية في الحركة البابية ،
البناء والهيكل
قسمت الرواية إلى منازل توازي حياة " قمر الزمان " ابتداء من المنزل الأول المحاق إلى " الهلال المتزايد " إلى التربيع الأول إلى الأحدب المتزايد إلى البدر إلى " الأحدب المتناقص " إلى التربيع الثاني إلى الهلال المتناقص إلى العرجون القديم ..
(٩) منازل قسمت إلى أبواب ونوافذ .
١_ منزل المحاق ( ٢ بابان ) ونافذة
٢ _ منزل الهلال ( ٢ بابان ) ونافذة
٣_ منزل الربيع ( ١ ) ونافذة
٤_ منزل الأحدب ( ١ ) ونافذة
٥_ منزل البدر ( ٣ ) ونافذة
٦_ منزل الأحدب المتناقص ( ٢ ) ونافذة
٧_ منزل التربيع الثاني ( ٢ ) ونافذة
٨_ منزل الهلال المتناقص (٣ ) ونافذة
٩_ منزل العرجون القديم ( ١ ) ونافذة
واخيراً باب واحد بلا نافذة وهو ( باب الحرية ) كما أن هذا الباب الأخير بلا منزل ، إنه مفتوح على نهاية تحتمل التأويل و ستبقى مفتوحة .
(١٧) باباً موزعة على (٩) منازل و (٩) نوافذ ، أما " باب الحرية " فهو افتراضي ينفتح على كل مالم تنقله الرواية ..
تنتهي الأبواب بالباب السابع عشر حيث تحتله ( قرة العين / قمر الزمان ) بوصفها الداعية ماقبل الأخير لنظرية الاختلاف ، أما عدد الأصوات فهو ( ١٧ ) صوتاً تمثل ١٧ حياً بينما غاب الحي ١٨ ،
لقد توخت رغد السهيل أن تبحث عن الشكل الأرقى والأكثر دقة تمثلا للحكاية ، فصنعت " عالماً " أشبه بالمنزل يضم أبواباً ونوافذ وهي بذلك تعيد تشكيل الرواية مشابهة مع عالم غير افتراضي وهو المنزل الذي اعتبر نتاجا فلسفيا وعلميا لمنظومة الفكر العربي الذي أطلق على تحولات القمر في شهره إلى منازل.
كان اللقب ال (١٧) من حصة " قرّة العين / قمر الزمان " كونها المندوب الداعي ١٧ الذي أرسل ممثلاً لأحد حروف الحي والحي صفة الإلوهية.
امرأة خالفت الباب الذي آمنت بة ، خرجت عن قناعاته ، بقناعاتها ، كان الباب " محمد علي " من أصول تبريزية ، أما الرجل الشيرازي المخلص فهو المانح ، ولهذا تتبعت الرواية ذلك الرقم الأخير (١٧) الذي هي صاحبته و من امتلكه سيكون مؤمناً تقيأ روحانياً .
بدء الحكاية
تبدأ الحكاية من منزل المحاق الذي رسم مابين (١٨٢١ إلى ١٨٢٣) ليعرض حكاية فاطمة القزوينية ، والتعريف بأبيها وعائلتها ، والتابو الذي كان تحريماً لكل مفاصل الحياة ،
طفولة يمتزج بها الحلم ( بالنجمة في سماء قزوين الواسعة ) ، وبالواقع الذي اختلطت به الأوراق ، بالنبوءة التي حملتها امرأة ( طوطم) مجهول نفث رائحته إلى جسد "قرّة العين " التي لم تستخدم عطراً طوال حياتها سوى ذلك العطر الذي نزل عليها من سماء غامضه ، من نجمة بعيدة في أفق الله .
دعوة خارج تاريخ الفكر والتاريخ الحدث، تريد توحيد المذاهب ، تعترض فهي لاتقلد أحداً سوى ذاتها ، إنها الباحث الوحيد في تاريخ الإسلام عن فقه المرأة ، حتى أنها حازت على كرسي في الصحن الحسيني كما جاء على ذكره " علي الوردي ".
ولكن هل حققت رغد السهيل :
١- نجاح فقة المرأة على تعويض دور الرجل الأحادي في الإسلام
٢- هل سحبت الحكايه باتجاه النسوية .
٣- هل تحققت القوة المجهولة للمرأة
٤- ما مديات ترسيخ القناعة بالمخلص .
تمزج رغد السهيل في روايتها الموضوعي بالذاتي ، صراعات المنطقة ( روس، إنكليز ، عثمانيون ، فرس ) والصراعات الذاتية لامرأة أحست بضرورة التغيير في السلوك العرفاني ، والتقليد الأعمى ، وتغييب المرأة .
عبر ذاتها ، و الشيخ الأب ، الأم ( آمنة ) المغيبة ، الأخ الشيخ عبد الوهاب ، الخادمة صاحبه الأسرار العميقة زعفران وحبيبها بهرام السائس وزوجها الفارق الشيخ محمد.
حاولت الأم أن تنقل لنا إشارات استباقية : منذ الصفحة (١٧) من الرواية:
" رفعت قرّة العين ( قمر الزمان ) رأسها وقالت :
أفكر في نجوم المرقد ، أريد نجمة يا أمي ! " ص١٧
تلك إشارة استباقية أولى تقود إلى حلم مضاع ، كرست رغد السهيل سردها كله لتحقيقها و الذي ضاع في عالم إسلامي يعترف ويقر بسلطة الثوابت ،
حاولت رغد السهيل أن تنفذ من الموضوعي في التاريخ إلى الذاتي في حكايات الشخوص ، ( حكاية الخادمة زعفران و عشقها لبهرام السائس وزواجها منه و الذي تأجل لسنوات طويلة ) ، ( حكاية قرّة العين وزوجها الشيخ ( محمد ) الذي هو ابن عمها أيضا و الذي فقد إنسانيته بمنعها عن رؤيه ابنيها اللذين صارا شيخين في الدين ) .
ظلت رغد السهيل تتنقل في المنزل الأول ، في الباب الاول والثاني منه بين ساردين يقتطعون جزءاً يسيراً من الحكاية الأم ليسردوها في نظام مزدوج ، منه تكراري من جهة وتكميلي من جهه أخرى ، يسهم في اكتمال الحكايه الكلية ، هنا تلعب السهيل على طريقة سردية جديدة في محاولتها خلق مكوك سردي بين أبطال الرواية ، زعفران تسرد عن ذهابها لمزار شريف وبصحبتها " قرّة العين / قمر الزمان " حيث يبتدئ بضياع الأخيرة الطفلة والتقائها بالمرأة المبشرة العجوز صاحبة الرائحة الزكية وتحول الوهمي إلى واقعي في مجمل الروايه / الحياة .
النظام السردي
قدمت رغد السهيل نظاماً سردياً مختلفاً عن السائد ، حينما اعتمدت الإفصاح عن الساردين في كل باب وتعاقبهم وتعددهم واختلافهم عبر الإشارة النصية لهم في بداية السرد الجزئي للحكاية الذي تضطلع به الشخصية المعلن عنها ومنها :
زعفران ، ورستم ، الأم ، عبد الوهاب، الشيخ محمد بوصفهم رواة متعددين وبذلك لم تبخل على أي شخصية أن تروي ما بدا لها مهماً في الأحداث وكأنها بذلك ساوت بين أعضاء مجتمع الرواية الذي انقسم إلى عدة أقسام وهي :
١- شيوخ الإسلام
٢- شيوخ الطائفة
٣- الخدم والحراس
٤- النساء المستلبات .
وبهذا حققت الرواية فعلاً مأساويا قرأت من خلاله تدهور البنية الاجتماعية لابسبب تفككها ولكن بسبب تماسك الفكر الديني الإسلامي ( وفق مصالح قادته ) في الضغط تعسفاً على الهيكل الاجتماعي كي يرضخ لما تريد تلك الطبقة السلطوية المهيمنة تحقيقه ، والتي لم تستطع المرأة أن تكسر التابو المهيمن حتى بدعوة مجيء " فمر الزمان " التي دعت إلى التغيير .
الدال الإشاري
حاولت رغد السهيل أن تحقق في عنوان روايتها كل الدوال التي تقود إلى توصيف التراث الروائي ( منازل ح١٧) وهي بهذا التوصيف الاختصاري أرادت أن ترمز بكلمه منازل إلى تحولات البطلة ( قرة العين / قمر الزمان ) كون الرواية تتحرك باتجاه منازل حياتها المختلفة التي تشابه تحولات القمر في شهره ، بينما اعتبرت ( الحاء ) رمزا مختصرا لكلمه الحي وهي الكلمه المرادالتوصيف بها للحي الذي هو صفه من صفات الدعاة ال (١٨) ، من قبل المرشد الشيرازي والذي منحها هذا الرقم تسلسلاً ، وكأننا هنا نبصر الرواية بمجملها من خلال العنوان ( بنية صغرى) أو ( بنية ليست افتقارية ) كما كان يرى استاذنا " محمود عبد الوهاب " حينما يصبح العنوان بنية افتقار ،
أقول : إن العنوان أصبح حاضنا تأويلياً للحكاية كلها ، وملخصاً دلالياً لماتريد الروائية تسجيله ،
التداخل الصوتي
ويتبادر إلى الذهن عند قراءَة تعدد الشخوص أن الرواية ذات نظام بوليفوني أو تندرج تحت هذا الإطار إلا أننا حين إعادة النظر في تركيبها ، نجد أن لاتعارض بين سرود شخوصها أو أبطالها لأنهم بالرغم من صراعهم الظاهر إلا أنهم يكسرون النسق التعاقبي بل يسهمون في إنشاء سرد آخر نطلق عليه بالسرد التكميلي ، وعليه يصبح الدافع السردي حتى لو تغير الساردون يوصفهم أصواتاً مشاركة ، يصبح فعلاً تكميلياً، لاتصارع سردياً بين شخوصها ، وبذلك اقتربت الرواية في سردها من تخوم المونوفونية الأحادي الصوت ، بالرغم من الوهم الظاهر على سطح السرد من اهتمام بوليفوني تعددي بالسرد .
من الملاحظ ان زعفران خادمة ومربية قرة العين / قمر الزمان قد استحوذت على النسبه الأكبر في الاضطلاع السردي لأنها الخادمة و المربية والمصاحبة لقمر الزمان في السفر والترحال مابين ( قزوين وطهران وكربلاء والكاظمية في بغداد ... والمدن المتعددة التي انتقلت إليها " قرة العين / قمر الزمان ) وإزاء كل ذلك تحاول رغد السهيل أن توهمنا بأن النص المكون " سرد الروايه كلها " ماهو إلا نص شفاهي تناقلته ألسن النسوة ( ابنة عن أم عن جدّة ) ، كي تعطي الرواية بعداً تاريخياً باعتبارها اي " رغد السهيل " الوكيل الحقيقي المدون عن الساردة الأخيرة وأغلبها عن " زعفران " الخادمة و المربية.
الافتتان بالذات
لعبت رغد السهيل ( وهنا أحاول ألا أفصل بين الساردة العارفة بكل شئ عن المؤلفة ) دوراً تنظيرياً عندما أطلت على احداث التاريخ والرواية عبر خلق منظومة مما أطلقت عليها اسم " نوافذ " وهي ( ٩ نوافذ) حاكمت المسرود التاريخي والفني الماضي بقوانين ومنظور الحاضر الذي اضطلعت هي بروايتة بوصفها رقيباً على سرد الأحداث المنتمية للماضي بما يمكن تصنيفه بانجاه الافتتان السردي بالذات .
لم تستطيع رغد السهيل بالرغم من محاولاتها الذكية أن تهرب من التسلسل الوقائعي للحكاية و أن تتخلص من كورنولوجية ( تعاقبية ) السرد والأحداث بالرغم مما حاولت فيه أن تكسر نمط الحكي وتعدد الساردين - بلا اختلاف - ومع ذلك ظلت أسيرة للحكاية الأم ذاتها وهي سيرة حياة " فاطمة القزوينية " التي حاولت جاهدة أن تبتعد عن اسمها الحقيقي واستبدلته إلى " قمر الزمان " لتوازي به دعوى " المنازل القمرية " وهو اقتراب حول الدوال هذه إلى رموز حكائية مشعة ومحيرة في الآن نفسه .
كرست النوافذ تلك بتدخل السارد كلي العلم ، إلى أن تكون الروايه لاسيرية بحتة ، إذ يحتم أن تكون السيرية اضطلاع السارد / البطل بالسرد الذاتي بينما هنا نجد الساردين / الأبطال يخلقون أنساقهم بذواتهم ، وكأنهم يشاهدون حكاية ويسهمون في سردها .
حاولت رغد السهيل أن تعالج ماهو واقعي محسوس بما هو سماوي مبهم عندما أنزلت النجمة من سماء افتراضية لتصبح قمر الزمان في بداية الرواية أسيرة الوهم السماوي ، فقيدت البطلة بسجن الدعوى بما يقابلها نهاية الرواية عندما صعدت " قمر الرمان " إلى السماء لتكون نجمة فاطلقت البطلة في سماء الحرية .
وكأن السهيل تخلق هنا عالمين الأول مقيد في استهلال الرواية حيث سجنت قمر الزمان بفكرة الدعوة الأرضية والثاني منطلق أو حر عندما اختتمت الرواية بفصل الحرية السماوي الذي لا ينتمي لأي من الأبواب التسعة .
كما أن السهيل لم تنس أن تتعاطف مع قرّة العين / قمر الزمان في هذا التتبع الكبير لسيرتها التي انشغلت بها ، حيث لجأت في كثير من الأحايين إلى عبارات توصيفية خارج إطار السرد .
باب الحب .. البداية المتأخرة
في ص٣٤ يأتي باب الحب ليروي متأخراً وكان حقه التقديم تعاقبياً ، قصة ولادة قمر الزمان ، من خلال الساردة " الأم " بضمير المتكلم :
" وضعتها القابلة في حجري وأنا متدثرة في فراشي "
ص 34
ولكن هذه الساردة تصف ليلة الولادة بأنها :
" ليلة عاصفة ماطرة ، غاب عنها القمر " ص٣٤
وبعد ستة أسطر تصف المولودة قمر الزمان :
" قالت لي القابلة - إنها القمر الذي أنار سماء هذه الليلة المعتمة " ص٣٤
وبذلك وظفت رغد السهيل كل أحداث الرواية منذ ولادة " قرّة العين " لتكون منازل القمر مؤهلة للاشتغال التقابلي في الرواية .
ولم تتعد الصفحة ص٣٥ حتى تنبأت " قمر الزمان " إلى أنها في حديث الأم ستكون مثل أبيها :
" فقالت لي : سأكون مثله " ص ٣٥
هنا يبدو أن عقدة الروايه تتمثل في أن " ليس للنساء شأن في الإمامة وخطبة يوم الجمعة " ص٣٨
أقول : لقد قدمت رغد السهيل أحلام النساء في " منازل ح١٧ " باختلافاتها جميعا ، ( تلك التي تحلم بأن تخطب يوم الجمعة ) و ( تلك " زعفران " التي تحلم بالزواج من بهرام ) وغيرها من الحكايات المزروقة في جسد الحكاية الكبرى في ضوء التضمين الدلالي ، بحسب (أوستن وارين ورينيه ويليك ) ومع ذلك استخدمت رغد السهيل النسق التكراري :
" الأم : عطر لايزول بالاستحمام " ص٤٨
" أقسم .. لم اضع أي عطر لعله عطر السيدة " ص٣٣
" لعله عطر تلك المجنونة " ص٤٩
تناولت الرواية أفكارا ثلاثاً وهي :
١- اصطياد نجمة المزار
٢- حوار المجنونة
٣- قصة العطر العالق في جسد قمر الزمان.
من جانب آخر لم تضطلع " قرّة العين / قمر الزمان " بالسردإلا بالصفحة ٨١ متأخرة في " باب الخيبة الصغرى " من " منزل التربيع الأول " وكان ذلك مبرراً اذ انتظرت الساردة الكبرى " رغد السهيل " حتى نضج القمرفي التربيع الأول لكي تمنح قمر الزمان أحقية السرد ، وكان ذلك وهي في ال ( ١٤ عاماً ) .
لقد اعتمدت السهيل على مقتطعات من سرود الشخوص لتكون ترويسة ابتدائية للسرد وكأنها تنتقي الجمل الأكثر بريقاً ومنها على لسان قمر الزمان :
( - هل يقارن جريان نبع صغير بنهر غزير ؟ " ص٨٢
وتعددت الاختيارات مابين ( تساؤلات ، توصيفات ، سرديات صغرى ، جمل تقريرية ، حوارات ).
الضياع الأبدي للشخوص
حاولت الرواية أن تقدم ضياعاً لمصائر تائهة في مجتمع سكوتي تائة ( قمر الزمان وتوهانها الفكري )، الشيخ محمد ( زوجها ) والبحث عن اللذة ، إسماعيل وإسحاق ابناها في ضياعهما الجغرافي ، الأب شيخ قزوين في ضياعه السكوني ، زعفران في الضياع وراء الوهم الذي لاتعرف عنه شيئاً "
وكل هذه المصائر الضائعة مدفوعة بسبب التساؤلات الكبرى وصراع المرأة بالفقيه الرجل ، والمطالبة بأحقيتها في أن تتفقه في علم الدين ، تلك هي دعوى قمر الزمان وانشغالها بالتأويل الذي قادها لمصير غائم مجهول . في قعر بئر السلطة .
ظل هؤلاء يسردون حكاية واحدة ، مجزأة ، يكملون سرد بعضهم البعض من أجل أن تستوفي القصة جوانبها المتشعبة " السيرية " .
حاولت السهيل أن تقدم المجتمع النسوي الفارسي والعربي بصورة واحدة ، بوجه واحد ، وبرؤية واحدة ، ابتداءً من قزوين وتبريز وطهران وكربلاء و بغداد ، في إطار من القهر والقسوة والقسر من الوهم الديني الذي كان يناغم السلطة ، وهن يحلمن بالمخلص من داخل الفكر الديني وكأنها تقدم تعارضاً بين الفكر الديني بوصفه عنصراً مهيمناً والمخلص بوصفه عنصرا منقذا من المهيمن ،
من " ام فاضل " زوجه كاظم الرشتي في كربلاء الداعية الذي لقبها ب( الطاهرة ) ، تبدأ حكاية قمر الزمان في كربلاء ، وعشق " حسن" المريد لقمر الزمان وطلب الزواج بها ، وبذلك تأتي المرحلة العراقية في حياة " قمر الزمان " ، التي هي مرحلة العشق في العراق إلا أن لقاء حسن بقمر الزمان لم يتحقق بسبب التعارض الفكري والمذهبي كون حسن يمثل المنهج الأصولي بينما مثلت قمر الزمان المنهج الإخباري ، غير أن " رغد السهيل " ترى أن الحب والعشق هو ما يمكن أن يجمعهما ، بيد أن ذلك لم يتحقق ، وبذلك حاولت السهيل أن تقدم "قمر الزمان " شاعرة الحب في قصيدتها الطويلة بالفارسية
أكر به تو أفندم نظر "
لو وقع عليك ناظري ( ص١٢٣) .
التعارض السردي
لايحصل في رواية " منازل ح١٧ " التعارض السردي إلا بين رجال الدين ، الشيوخ المعممين إزاء سلوك قمر الزمان ، والأحداث والتحولات الفكرية ، أي أن رغد السهيل تحاول أن تبني شخصية السارد من خلال وعيها الديني ، مع اعتبار أن بدعة المخلص جاء بها التيار الديني الذي تمثله قمر الزمان " البابية " في معارضتها للأصولية كمنهج في البحث والاجتهاد المذهبي ، الذي ناصبها العداء بكل شيوخه .
ولأن السهيل مفتونة بأنماط السرد التي يشترك بها شخصيات كثيرة ومتعددة ، تراها توكل لشجرة التوت التي زرعتها قمر الزمان في بيت والدها شيخ قزوين فسحة سردية جيدة ، مستنطقة الجماد في محاولة لخلق سرد استباقي دائماً ، تصوري غالبا أو مانطلق عليه بالسرد الوهمي الافتراضي . ومع تعدد الساردات ( النسوة في الأغلب الأعم ) عن بعضهم البعض ، وقلة وجود الساردين الذكور في السلسلة الافتراضية ، نجد أن الساردات جميعهن قد انتهين عند ( زعفران ) كونها الخادمة و المربية التي تأتي في قمة السلسلة ، إذ لابد أن يعود السرد لينتهي عند فرد من أفراد الأسرة . وبذلك نجد أن رغد السهيل لعبت على نظام سردي مختلف ذي هيكل شكلي من أجل إقناعنا بحقيقة الافتراضي . حيث استخدمت نظام التطويق السردي المحتمل ( وهو نظام تحدث به روبرت همفري في كتابه تيار الوعي ) ولذا نجد ذلك في :
الساردة الأولى
" زعفران بدء الرواية ( استهلال )
الساردة الأخيرة
" زعفران خاتمة الرواية ( القفلة )
وبهذا مع كل هؤلاء الساردين من النسوة يعود السرد إلى العائلة ممثلاً بزعفران بوصفها جزءاً بنائياً من مجتمع الرواية .
وربما يرى البعض أن كل ماسرد من أحداث كانت متداولة في المرويات الشفاهية والمكتوبة إلا أنني أجد أن فضيلة هذه الرواية المتقنة حقاً ، هي في كيفية تقديم تلك المرويات في فضاء آخر أكثر فنية وهو فضاء الرواية الذي غلب عليه الفني لا التاريخي .
ومن الجميل حقاً أن رغد السهيل استخدمت الحجاجية في سرد قمر الزمان تحديداً ص٢٠٣
إن رواية ( منازل ح١٧) لرغد السهيل ، اجترحت شكلا جديدا في بناء رواية السيرة بعيداً عن المسار الخطي ( الكورنولوجي ) من أجل خلق مؤثرات مخلخلة لذهن المتلقي الذي عليه أن يعيد تشكيل أحداثها من جديد ..