دراستي المنشورة في العدد الاخير من مجلة المأمون، الصادرة عن دار المأمون في وزارة الثقافة
عن لا شيء يحكي ..
مهارة السرد المموهة
منذر عبد الحر
أزعم أنني قرأتُ كل المنجز الروائي للدكتور طه حامد الشبيب , منذ إنه الجراد , حتى عن لا شيء يحكي , وفي الغالب تكون قراءتي لكل رواية من رواياته مرتين على الأقل , المرة الأولى وهي مخطوطة بخط يده المميز بالرسم الخاص للحروف , والمر ة الثانية حين تطبع الرواية , ولكل من هاتين القراءتين سمات , قد أتحدث عنها في مناسبة أخرى , لنها تعنى بصلب عملية القراءة والتلقي والتفاعل مع النص الأدبي .
في كل رواية من روايات الشبيب أجد شيئا جديدا , وهذا الشيء , لا يُستمكنُ بسهولة , لأنه زئبقي , يتحرك في سياق الحدث , وهو عندي بمثابة جوهر لرسالته الفنية والفكرية أيضا في تجربته الروائية , فهو في الغالب , يضع مثابة لاشتغاله , هذه المثابة ينسج حولها مداراتٍ , يولّد منها رؤى للثيمة الرئيسية التي يريد إطلاقها , ولعل القارئ المتابع لأعماله سيتلمس الكيفية التي تعامل فيها الروائي مع كل ثيمة من ثيمات رواياته , ولو تحدثنا مثلا , عن هذه الثيمات في حلقة دراسية تخصص له , لعرفنا آليات اشتغاله , وخصب خياله ومهارته الواضحة في إعادة صياغة الحدث بدلالات جديدة ...
أتحدث الآن عن روايته الجديدة , التي أخذت عنوانا لافتا , فيه جدل واسع , فالذي يحكي عن لا شيء , كأنه يركض باتجاه سراب , هكذا يقول المنطق , لأن الحكاية والقص تبنى على أشياء , اما اللا شيء فهو عمق معرفي ودلالي مختلف هنا .
في صناعة الحدث تمويه مقصود , فالأعمى يتخيّل , والتخيّل لا يحسم هنا اي فعل و وبذلك يسقط الشبيب أل التعريف عن كل الأحداث , لتبقى أشياء مفترضة , نتجت عنها رؤية صارخة هي اللا شيء , وبالتالي فإن ما يحصل من خلال العالم المحدد في " ركام بيت " وخراب نفس وعزلة تجعل الأعمى حمادي العارف يعيش بالمصادفة المحضة , مع كلبة وجرائها , في دلالة تضج بالتأويلات , حيث يعبر الراوي هنا المعنى المتعارف عليه إلى فعل الدلالة من خلال رصدٍ يتهجى صور العالم , ليبني عليها ما يمكن أن يصنعه ذهنه , وبالتالي يطلقه , باعتباره " حقيقة " غير محسومة , وليست " الحقيقة " المثبتة , حمادي المولع باللغة الفصحى حين يسكر , أو بعد كأسه الأولى " الفصحى جميلة , ولا ينبغي لنا التحدث بها إلا إذا شعرنا بالجمال " ص 9 " الرواية " ..
يقول ميشيل فوكو في كتابه " الكلمات والأشياء " : تقوم المعرفة على نقل لغة إلى لغة , على إعادة السهل الكبير المنتظم للكلمات والأشياء , على جعل كلّ شيء يتكلم , أي توليد , فوق كل العلامات , الخطاب الثاني للشارح ."
وعليه فإن هناك لغة تفضي غلى لغة ثانية و لغة العبث واليأس التي يعيشها , إزاء اللغة التي يشعر فيها بتلمس الجمال , حين يكون انتشاء يجعله محلقا في فضاء إنسانيته المفقودة , وهو في وضعه الطبيعي وحياته اليومية , هنا تصعد إيحاءات الاحتجاج , التي تتحوّل إلى فرح موقوت , يؤدي إلى رغبة أن يسمع الأعمى الآخرين ما يريد , وهنا قناع فني , يلبسه الراوي , ليخرج من الإطار التقليدي للمعنى " أريد أن أحكي لكم حكاية " ما أدري شنو " حكاية عن لا شيء , الأعمى خير من يحكي عن لا شيء " هذا البوح الصادم , الذي يبدو ساذجا بسيطا لدى البطل , وهو في الواقع التمهيد للخروج الجريء من إرث السرد المتعارف عليه , حسب الاشارات " إن كنت لا ترى الشيء وتحكي عنه , فإنك بذلك تتحدث وتحكي عن لا شيء " " كنتُ أراها بمخيلتي كيف تحدث " " لا يوجد في حياتي شيء مؤكد مئة بالمئة " ...
هذه الالتقاطات تؤكد التوجه الفني للراوي , وتعطيه القدرة على خوض لعبة اللغة , بلا براهين حاسمة , ولا معنى محدد , هي دلالة عميقة على الرصد الخادع الجميل , أمام اعتراف أن لا شيء محسوم , رغم أنه يسرد وقائع وأحداثا قد تكون أجواؤها معروفة لنا جميعا , بإقرانها بزمن يلمّح إليه ..يقول فوكو : " إن خاصية المعرفة ليست في الرؤية , ولا في البرهان , وإنما في التأويل " وهذا القول ينطبق على اشتغال الشبيب في روايته الجديدة , فقد وضعنا في مركب التأويل لنحقق فيه عمق قراءتنا .
من الجدير بالذكر أن طه حامد الشبيب كاتب إشكاليّ , وراءٍ مغامر و فهو لا يبحث عن جمهور واسع و ولا عن متلقٍ منتظم الذائقة , بل عن قارئ و يستطيع التجرّد عن منظومة النص وجنسه المحددة ضمن اشتراطات وقوانين , ليفصح عن تفاعله مع النص ذي التلميح بالتأويل غير التداول , والرمز المستنبط من التجربة لا من الموروث , وبالتالي يجب أن يكون هذا القارئ بمستوى النص , وإلا فأن الروائي سيعيش في عزلة عن الآخر .
" أن اللغة تملك في ذاتها مبدأها الداخلي للتكاثر , فهناك عمل أكبر لتأويل التأويلات من تأويل الأشياء "
أسوق العبارة أعلاه لفوكو أيضا , والمستلة من كتابة الكلمات والأشياء , حيث وجدت فيه إضاءات هامة قد ينطبق بعضها على العمل الجديد للشبيب , فللغة نوافذ وأبواب , وتستطيع أن تخرج بنسيج جديد حين ترتبط برصد يخلخل الذائقة , ويجعل المعني بالسرد حائرا , هل أن ما يقدّم هنا منصاع تماما لنظرية الرواية ؟
و الحقيقة أن جملة السرد , ومسار الحدث , وبناء الشخصيات , والتعامل مع الزمن , يتقنها طه الشبيب بدقة و لكنه يثور على الرؤية في المتن ويجعلها ذات أبعاد مختلفة , وهو بهذا يضعنا أمام علامة استفهام كبيرة , فهو يتمتع بحرية الدلالة والتأويل وإسقاط اللغة التقليدية في فخ اللغة البديلة , لغة الرائي الأعمى , الذي لا يعرف أشكال من يجلس معهم ويسكر معهم ويغني ويرقص , ثم ليروي لهم حكاية مموهة , وهي في الواقع حكاية مريرة بتفاصيلها ودمها الحار وشخوصها , ولا يعرف متى يتذكره الجار كي يجلب له ما يحتاج من الماء , وهو الذي يجلس وينام وربما يحلم على تاريخ ممتد في عمق الأرض
, يذكره بكل شيء عاشه , من لحظة عماه واحتفاظه بصور الأشياء المتشكلة في ذهنه الطري , وهو ابن الخمس سنوات , حيث انتباهة الاكتشاف الأول للأشياء , لذلك تراه وهو ابن السبعين يتحدث برؤية الطفل الذي احتفظ ببقايا الأشياء لتهيمن على تضاريس إحساسه بالعالم , وتراه حين يسرد وصفا , ينطلق منه إلى جذوة حروفه المبكرة , التي تعلمها سماعا ...
هل " إننا لا نفعل أكثر من أن نفسّر بعضنا بعضا " ...
اشتغل المبدع طه الشبيب في روايته الجديدة " عن لا شيء يحكي " على الشكل المتماهي مع المضمون , حيث سعى إلى إيهام القارئ بنسج حدث غير محسوم الوقوع , عن طريق إلغاء الرائي التقليدي , والعين الراصدة , وبذلك فقد حقق رؤية مختلفة وأمسك بأفق تعبيريّ خاص به , لعله غير مألوف , ففي الغالب , سعت الروايات الغرائبية إلى لغة الإيهام أما عن طريق الانتقال بالواقع إلى الحلم , والمضي به في عالم مفترض , أو الانتقال بمستوى الخطاب السردي من صوت إلى صوت آخر , بأسلوب قد تتداخل فيه الأصوات بلعبة فنية مقصودة من أجل تشويش ذهن القارئ وجعله باحثا عن أجوبة خاصة , أما الشبيب , فقد جعل سارده أعمى , يرى بذهنه , ويرسم الملامح كما يتصورها العقل , وهو يحتفظ ببقايا الأشياء تحت ضوء وعي الطفولة , وقد دعم هذه المعادلة بلغة تنسجم تماما مع نسق الحدث , وهو يمضي بمساراتٍ مقنعة في تسلسل حدوثها ومسمياتها ووعيها , وبالتالي ربطها بالتاريخ وما حدث فيه , ولكن بقراءة أكثر وجعا , ولنتأمل الإشارة الذكية والطريفة لوقائه التاريخ وزمن الحدث , حيث يقول " حمادي الأعمى " حين تأخر عليه جلساؤه " الأشباح وفق رؤيته حتما " : الله ما رحمني وجابكم علي حتى تشرّبوني عرق إلا بأيام المتدينين هذي " ...
وبعد الوصف لمتطلبات كل تمهيد يشير إلى الواقع , يأتي ربط الأحداث سرديا , والمضي فيها , في الزمن الماضي " تتذكرون عمران الفحام لما حذرني من مغادرة مكاني أمام باب بيتنا والتجوال في الشوارع , أتصور انكم تتذكرون ذلك , لقد التزمت بتحذيره التزاما صارما , كما يقول الراديون ..." ليمضي القص , وصفا دقيقا , حتى الانتقال إلى خيوط الكارثة , وهكذا يحصل الربط بين الزمنين ...
أتذكر أن للشاعر الراحل كمال سبتي مجموعة شعرية صدرت عام 1982 حملت عنوان " ظلّ شيء ما " , وقد تضمنت قصيدة بذات العنوان , كانت تتحدث عن غربة وبحث عن حب وأمان وسط قلق وخيبات وأوجاع , لذلك كان الشيء فيها متوقعا , وفي حينها كتبتُ عن المجموعة دراسة نشرت في مجلة الطليعة الأدبية آنذاك أسميتها " البحث عن الشيء في ظل شيء ما " ...وكان من الممكن الامساك بالبعد الذي أراده الراحل كمال سبتي في شيئه , وفي ذات السياق من التعبير عن فكرة عدم التحديد والتعامل مع الذهن , وكذلك الرصد بغياب العين الرائية , جاءت رواية " العمى " لكاتب البرتغالي جوزيه ساراماجو تحدث الرواية عن وباء غامض يصيب إحدى المدن، فيخلق موجة من الذعر والفوضى التي تؤدي إلى تدخل الجيش من أجل السيطرة على الأوضاع، ولكن الوضع يزداد مأساوية حين يتخلى الجيش على الحشود العاجزة ، ما يؤدي ذلك إلى سيطرة العصابات على ما تبقى من طعام ودواء. يبدأ الناس في الاقتتال فيما بينهم. تلقى القصة الضوء أيضاً على الجانب الإنساني المتمثل في الطبيب وزوجته وعائلته الذين بقوا متماسكين حتى اندثار المرض فجأة كما ظهر. تتحدث الرواية عن العمى الفكري حيث قالت زوجة الطبيب في نهاية الرواية " لا أعتقد أننا عمينا بل أعتقد أننا عميان يرون، بشر عميان يستطيعون أن يروا لكنهم لا يرون".
وهذه الرواية التي تحولت إلى فيلم سينمائي مهم جدا , رصدت الحدث بعين رائية , لذلك يتابع القارئ مسار الأحداث بكاميرا رصد خارجية , ولم تحدث في روايات التمويه والغرائبية ونقل الحدث من مستوى التعبير الواقعي , إلى الافتراض الذهني غير المحسوم سوى في رواية المبدع الاستثنائي الدكتور طه الشبيب ...
وهناك مناطق أخرى في العمل بالإمكان إضاءتها نقديا والحديث عنها , لأن الرواية غنية في دلالاتها ومستويات تعبيرها ومهارتها في السرد .