التماهي الروحي في الأثر المصري
رياض ابراهيم الدليمي
ربما تحديد الفلسفة والرؤية كمنطلق لأي بحث سيختزل الجهد ويقصر المسافات لفهم أية تجربة متناولة ، ولابد لأي باحث ومهتم الوقوف مليّا وبشكل متفحص لإنتاج الفنان وبيئته وثقافته ومكامنه المعرفية والنفسية ليبتعد عن الذاتية والانحياز ، لغرض الوصول الى الحالة المثلى في نتائجه وفق تحليلاته وحججه المطروحة والمعروضة ، وتشي المساحة المتوفرة لنا في هذه الدراسة قد لا تسمح بالإفاضة بالشرح والتحليل واستخدام أنمذجة متعددة لموضوعة البحث الفنان المصري التشكيلي ( فارس أحمد فارس ) ، ولقد اطلعنا على مجمل أعماله التي شكلت سفرا رائعا ومهما في تاريخ الفن التشكيلي المصري الحديث وهي تجربة تستحق منا ومن أي باحث ودارس أن يتناولها بشغف لما تركته من أثر فني في غاية الأهمية لاختلافها وتنوعها وغزارتها المعرفية والجمالية ، منطلقين من فلسفة ( هيجل ) في نظرته الى الفن والتي جاءت في ( كتاب فلسفة الفن والجمال عند هيجل لمؤلفه عبد الرحمن بدوي ) كما عرضها وشرحها والتي ورد فيها : ( فقد ذهب هيجل إلى أنَّ الفن هو عرض الصورة المثالية بالشكل المحسوس، وبأنَّه أيضًا خاتمة حركة فريدة في الفلسفة اتَّسمت بربط مشكلة الوجود ومشكلة المعرفة بشكل وثيق) . ولابد من توفر عنصر المتعة والاحساس للتذوق الفني والجمالي كما يؤكد على ذلك ( كانط ) قائلا : (ان " التمتع هو النتيجة عندما تنشأ المتعة من الإحساس، ولكن الحكم على شئ يكون " جميلا" له شرط ثالث: وهو الإحساس لابد أن يرتفع إلى المتعة من خلال إشراك قدراتنا للتأملات المتعاكسة. الأحكام الجمالية هي، الإحساس، العاطفة والفكر الكل في واحد. تفسيرات مشاهدين عملية الجمال، تمتلك مفهومين للقيمة: الجماليات والذوق. الجماليات هي الفكرة الفلسفية للجمال. الذوق هو النتيجة للعملية التعليمية والوعي لنخب القيمة الثقافية من خلال التعرض للثقافة الشاملة.) ويشير "ديفيد هيوم " في الأحكام الجمالية الى : إن رفاهية الذوق ليست مجرد "القدرة على كشف المكونات في تركيب ما" ولكن أيضا حساسيتنا للألم واللذة ).
عند الولوج في تجربة المصري الفنان ( فارس أحمد ) وعمق آليات اشتغاله ولغته التقنية والثيمية ستبرز للقارئ اشكالية الاندماج الشكلي والضمني ، ومن الصعب الفصل بينهما عند أحادية القراءة لكل عنصر على حدة خاصة ، فيغدو الشكل مضمونا والمضمون جوهرا للشكل في فلسفة الفنان في بنائية أعماله القائمة على كليّة العمل ، لذا قد يصبح الأمر معقدا لدى المتلقي والقارئ معا ، وللغوص في جمالياته وتقناتها ومضامينها يتطلب ثقافة ووعيا أولا ، ومن ثم وعيا ابستمولوجيا في حيثيات التشكيل لأننا أمام مشهد تشكيلي مغايرا يحمل في مدلولاته اشتغالات فيها الجدة والابتكار والخلق والأهم من ذلك روح المغايرة التي سادت أعماله ، والحديث هنا عن أعمال يمكن أن نطلق عليها (المركبات ) اذ يحاول أن يجمع في العمل الواحد أكثر من تقنية بدءا من الخامات ، فهو يمزج بين ( ريليف الخشب والزجاج والحديد والقماش والطين) ، وهذا يشكل التباسا لأي متلقي ومشاهد حيث سيصاب بالحرج من خلال كيفية التعامل معها وكيفية الدخول اليها وأية مفاتيح سيستعملها للولوج في مغاليقها ، فعندما نتعامل معها على أنها عمل تصويري ورسم فأننا سنخطأ في تقدير وصفنا لها ، فقد وظف الفنان أكثر من خامة وسطح في اشتغاله ، وان تعاملنا معها على أنه عمل خزفي أو تخريم فأيضا سنقع في نفس الدوامة من الارباك في تحديد هوية تشكيله الواحد .
نحن أمام أزمة القراءة لأعمال ( فارس أحمد ) فلابد من الوقوف مليّا على أدواته الفنية التي أسلفنا ذكرها على أنها أدوات وخامات وألوان مختلفة يتم توظيفها بالعمل الواحد وأجزائه ووحداته الشكلية ، ونحاول أن نستعير مصطلح ( التماهي Identification ) قد يكون أحد أدوات ومفاتيح اشتغالنا النقدي واحدى وسائل القراءة لأعماله ، لأن التماهي والمماهاة تعني الامتزاج والارتباط طرفا مع طرف آخر ، والنظر الى تشكيلات ( الفارس) لديه عدة توظيفات في خاماته فيتبادر الى ذهننا الأثر الفني المصري القديم ، وعلينا استذكار هذه الأعمال العظيمة التي وظف فيها الفنان القديم كل ما يستطيع من أجل نجاعة عمله ، اذ جمع بين النحت والرسم والحفر والنقش في كثير من الآثار الفنية الخالدة التي تركها من حفريات وجداريات وفق فلسفته وفكره وحسب متطلبات تلك المرحلة التاريخية والذائقة والميثولوجيا السائدة من معتقدات وأعراف وثقافة تلك المرحلة الزمنية ، اذاً يمكن وصف آليات اشتغال وتقنات ( فارس أحمد ) بأنها تماه مع التاريخ برؤيته هو رغم الاختلاف في بعض عناصر وأدوات العمل التشكيلي وهندسته في الوقت الحاضر ، وقد نختلف مع القارئ الآخر في رؤيته القرائية النقدية للأثر التشكيلي في تجربة ( الفارس أحمد) ان ذهب في قراءته وأطلق مصطلح ( المحاكاة Simulation ) في تقييمه ونقده لأعماله ان اعتقد وظن بأن تشكيلات (الفارس ) هي بمثابة محاكاة للأثر الفني الفرعوني ، لان المحاكاة هي تقليد لحالة ما وخاصة اذا كانت من الماضي لغرض مشابهتها ، وأعتقد لم تكن غاية ( الفارس) هي احياء ومشابهة وتقليد لأثر فني قد نفذ في فترة مضت من تاريخ مصر ، بل هو تماه معها وهذا التماهي له أسبابه و تمثلاته His statues على المستوى العقلاني الواعي وقوة حضوره واشتراطاته اللحظية كعناصر تحفيزية استذكاريه لإنجاز عمل ما وحسب حاجته ومسبباته ومبررات الخوض في مضامير سياقية ثقافية مغايرة قد استنفدت لحظتها الزمنية ومبرراتها الحضارية ، لأن النسق الذي جات فيه قد اختلفت بوصلته رغم وجود علائق وعلاقات انسانية ومكانية وثقافية قد تتسق مع بعضهما البعض .
المحاكاة للفن الفرعوني والقبطي والاسلامي مازال حيا وملهما للفنانين ويشكل ثقافة بصرية شاخصة على مدى التاريخ لعراقته وابداعه وثراه ، وتعد هذه الفنون كنوزا فنية وحضارية لا تنتهي قيمتها وأثرها في زمن ما بل هي هوية لكل عربي ومصري واسلامي وتشكل تراثا لكل شعوب الشرق وغيرها فما تزال موضع فخر للبشرية جمعاء ، وتجربة (الفارس ) في حقيقتها التي تمثل مركباته وعناصره الفنية وتشكيلاته فلم تكن محاكاة للأثر أو استلهاما شكليا وجماليا في أبعادها الأبستمولوجية والنفسية Its epistemological and psychological dimensions ، فيبدو هناك غايات فنية ومعرفية أبعد من التقليد والمشابهة للأثر أي هي ليست بمحاكاة للقديم ، لأنها تختلف شكليا ومضمونيا عنها رغم ظهور خيوط تشابه بالرموز والشفرات والخامات الموظفة فيها ، حيث شكلت بطرق ووسائل ومفاهيم مختلفة في جوهرها وأيضا في أغراضها و اختلافها الزمني والثقافي .
السؤال الذي يطرح نفسه هنا هل توظيف الرموز والايقونات التاريخية في أعمال ( الفارس ) هو توظيف احتفائي أستذكاري واعادة الذاكرة الجمعية للأثر ؟ أعتقد لم تكن غاية الفنان هو الاحتفاء مطلقا لسبب منطقي أن معظم الآثار الفنية اكتشفت حديثا ولم تشبع الذائقة منها بعد ولم تروِ ظمأه الوجداني والفكري والانساني كأفراد وشعب ، ومازالت هذه الآثار تحظى بالدهشة والانبهار لدى المشاهد ، ولم يكتشف الكثير منها ومعرفة أسرارها وفلسفتها بعد وخاصة ان معظم الفنون القديمة كانت تنفذ حسب تعليمات وتوصيات طبقة ومنظومة الأسرار لكهنة المعابد لغايات دينية وبشكل سري للغاية وباشتراطات صارمة ، ونراها ماثلة في المتاحف أمام الجمهور ، وأعتقد من المجازفة والمغامرة لأي فنان ان أراد التقليد والمشابهة في أعماله لهذه الاثار الفريدة ، لأنه سيقع في فخ المقارنة وسيجد نفسه خاويا أمام قيمتها الفنية والحضارية وهويتها التي تمثل موضع فخر وحماسة للشعب المصري والعربي بل لشعوب الأرض ، فلا يمكن أن ينظر لأعمال (الفارس ) من منظور التقليد والمحاكاة لكونها ستكون نظرة سطحية لفنه وستعطي انطباعا بأن المتلقي لم يلج في أعماق تجربته ، وخاصة أننا أمام تجربة فنية واعية ومقتدرة ومخلّقة وعارفة بآلياتها وأدواتها وأغراضها وخطابها الجمالي الثقافي ، أي نقصد هنا - تجربة الفارس أحمد- فمهما كان الارتباط الروحي والفكري للفنان مع عظمة الأثر المصري وتوغله في حيثياته وأسراره فلم نر أعماله قد وقعت في فخ التقليد رغم اتخاذ أشكاله ونحوته وحفرياته رموزا للحضارة الفرعونية والاسلامية كعناصر ووحدات فنية للعديد من أعماله لاتسامها باسلوب شخصي وبصمة فنية تمثل ( الفارس ) وحده بعيدا عن كل الاساليب الفنية القديم منها أو الحداثي برؤية هو صاغها بوعي متقدم واحترافي قادر على اجادة الصنعة والخلق الفني التشكيلي ، وهذا ينم عن دراسة وفهم عميق وبالأخص عندما نلاحظ تكرار تنفيذه لأعمال مثل مركبات تشكيلية وبمساحات مختلفة وبخامات متنوعة وبعناصر فنية ومجسمات متجددة في شكلها ومضمونها وتاريخها فمنها الواقعي ومنها الرمزي وأخرى من لبنات فكره وخياله المتقدين والتي قد لا تنتمي سوى اِلا لوعيه وأحلامه واستشرافاته ، فالحوار التاريخي واضح في أعماله لكن هنا الاختلاف يكمن بالحوار والمقاربة ، اذ لم يكن هذا الحوار سطحيا وعاطفيا نابع من عاطفة وحنين وانفعال مؤقت قد ينتهي ويختفي ما أن يختفي ويزول المؤثر النفسي الوجداني ، فالفنان يحاول أن يستجمع وجدانه وخاطره ويعيش الزمن الفرعوني بكل حيثياته عندما يباشر في لحظة التكوين ويستعيد الذاكرة ويعمل فلاش باك ( flash back) ، ويمكن أن نرى هذا الحوار عندما نشاهد ونقرأ ونحلل بعض من أعماله مثل (خزينة الأسرار ) وهو عمل (منفذ في عام 2015 وهو عمل مركب يتضمن حفر على الخشب وتصوير واشتغال على الصاج والحديد وهو مقاس 200×170 سم ) فلابد من تفكيك العمل بدءا من خاماته فهي خامات متنوعة استعملها (الفارس ) في تشكيلاته كما ذكرنا ، فالعمل عبارة عن هندسة بنائية محكمة حيث جسد خزانة أو درج أو مكتبة فيها مجموعة صفوف عبارة عن أدراج وصناديق ، فالقسم العلوي يتكون من أربعة وعشرين صندوقا فمنها ما هو مكشوف بمحتواه والذي أفصح عنه " الفارس" بمجسمات تشير للرموز الفرعونية ، والآخر منها مغلقا ، وفي أعلى القسم العلوي شيّد تاجا خشبيا للدلالة على الشكل الطبيعي لأي نموذج خشبي يستعمله الناس في بيوتهم كشكل تقليدي للخزانة أو المكتبة الخشبية ، وتستند هذه الصفوف العلوية التي شكلها بثلاثة خطوط على قائمين وعلى شكل حرف T باللغة الانكليزية ، و توحي شكلا كأنها علامة الصليب المعروفة أو قائمين أي ساقين ، وفي داخل هذين القائمين تتوزع صناديق بلغ عددها ثلاثة صناديق في داخل القائم الشمالي وخمسة صناديق في القائم الأيمن فمنها المغلق ومنها المفتوح ، وبالعودة الى محتويات هذه الصناديق نكتشف بأن المواد المستخدمة في تصوير ونحت المجسمات اختلفت موادها وألوانها وتشكيلاتها أي- مركباتها - وجسدت على سطح خشبي وجسمت هذه على شكل عناصر من نحت ونقش وحفر ومنها ما هو رسم تصويري ، وتمت زركشة التيجان بمخرمات الخشب وزخرفتها ورقوشها ، لذا يمكن وصف العمل ومضامينه الشكلية بأنها مجموعة صفوف تمثل محتوياتها رموز حضارة مصر القديمة وأما الصليب الذي تمثل واضحا في تشكيله فهو يشير الى الحضارة القبطية المسيحية وأما الرقش والزخرفة العلوية وبعض القضبان والشبابيك داخل المتن انما تشير الى رموز الحضارة الاسلامية ، لذا يمكن القول قد أنشأ - الفارس - حوارا واتصالا ثقافيا بين الثقافات الثلاث هذه بوعي تام دون المباشرة والافصاح المباشر عنها ، بل اكتفى بالشفرات وترك للمشاهد أن ينشأ هذه العلاقات للتوصل الى غاية ضمّنها - الفارس - الى عمله ، وهي تورية Pun اعتمدها في عمله ، والسؤال الذي ينبغي أن يسأل لماذا بلغ عدد الصناديق المجسمة في العمل اثنان وثلاثين صندوقا ؟ هل جاء العدد مصادفة ولغايات وضرورات شكلية ولخلق التوازن داخل العمل أم أنها شفرة وثيمة ؟ ، من خلال فهمنا وادراكنا لشخصية الفنان - الفارس - وتجاربه والغوص فيها سيكون جوابنا هنا أن عدد الصناديق واقسامها وتوزيعها تمثل شارة وشفرة قصدية مكملة لثيمة العمل فبدءا من الصف العلوي للصناديق تجد أن كل الأشكال والمجسمات هي رموز تشير الى الحضارة الفرعونية القديمة ، وتشي هذه الرموز والشيفرات تتسم بطابعها البدائي في التشكيل الفني والذي اتسم به العصر الأول فلم يكن فيه الفن في تلك الفترة فننا محترفا بل وجد لغايات دينية بحته وحسب متطلبات ذلك العصر ، ونلاحظ بدأ الصف العلوي بصندوق مغلق للدلالة بأن بواكير الحضارة تخفي سرها الأول وربما لم يكتشف لحد الآن ، وشارة غلق الصندوق فهي شارة للإخفاء والسرية والغموض وعدم تجلي الأسرار ولم يصل الانسان الى حقيقة العقل المصري القديم ،