...
( تلك أسفاره) رواية الفلسفة واللعبة الحكائية
علي لفتة سعيد
تحاول ( تلك أسفاره ) لعلي حسين يوسف ضخ أكبر كمية من الجهد الفلسفي والأفكار الفلسفية والتحليل الفلسفي وحوارات فلسفية وكل ما له علاقة بالفلسفة من أجل تبئير فكرة الرواية لتكون هي الحاضنة الأولى والأخيرة له، ولتكون ايضا غطاء لكل المستويات التدوينية، لأن اللعبة الأساسية في هذه الرواية تؤدي دور الضخ لزيادة مناسيب المعلومة الفلسفية التي تبدأ بالعنوان ليكون بوابة المدينة الفلسفية التي يدخلها.. وعلاقة المفردة أسفار بالفلسفة أقوى من علاقتها بالمتن السردي وحتى الحكائي الذي يريد إعلاء قامته من أجل المنافسة مع المستوى الفلسفي التي كونتها الفكرة الأساسية.
المبنى الحكائي.. المبنى لسردي
ما يبدو على الرواية التي تعد الاولى ليوسف بعد سلسلة من الكتب النقدية انها رواية سيرية بثوب سردي، أو سرد ارتدى ثوب السيرة، ولذا فان الأسفار هنا لا تعني سوى تلك المركبات التي تحمل نواة كل حركة من الحركات والشخوص التي ساهمت في إعطاء ملمح الشخصية بعدها السيري وبالنتيجة الوصول الى الملمح الفلسفي الذي تريد الرواية قوله. ولهذا فان هذا الأسفار هي فصول حياتية يحملها المتن السردي بطريقة التقشير المتعدّد النواحي والاتجاهات، فهي أسفار فلسفية وسياسية واجتماعية وعلاقات وتضاربات وتبيان وحتى ازدواجية الشخصية في القراءة الأولية لمعنى القصدية التي تدور رحاها بين أسفار الرواية، ولهذا قد يجد المتلقي أن ( أسفاره) لا تبدو مطابقة للمراد التأويلي من خلال نتائج البحث السيري بل أرادها أن تكون علامة دالة على محاولة إيصال كل ما يريده من أجل التماهي ما بين طريقة السرد وطريقة الحكي، لأن الرواية في بعض أسفارها عبارة عن متن حكائي أكثر مما هو متن سردي من خلال العلاقة التي تربط الراوي بالشخصية الرئيسية (محسن) وهو بهذا جعل من العنوان ليس بابا للدخول الى مدينة السرد بل هو غاية التقطيع والانتقالات السردية التي فرشها الروائي على مساحة واسعة تبدأ من الطفولة الى لحظة الاعدام وما يليها وما قبلها وما جاورها.
تنوّع المتون
إن فكرة الرواية تنص على الفعل الفلسفي لمدرس فلسفة ينظر الى الحياة بعين أخرى لا ينظر لها المجتمع ولا تنظر له القوة السياسية المتسلطة التي تذكر في التأويل الحكائي على انها تمتد من السبعينيات حتى سنوات الحصار وما بعده وهي تراقب حركة الشخصية مع ما يجاورها من شخصيات تتعدد بتعدد الأسفار، وتتنقل بطريقة التدوين بتعدّد فهم وثقافة الشخصيات المرافقة.. وهذه الشخصية تلاقي الكثير من التضادات فلا المجتمع باستطاعته هضم الفلسفة باعتبارها المعينة على فهم الحياة ومواجهة الصعاب ولا السلطة تريدها ان تكون موجودة،( كم مرة نصحناه أن يكف عن تفلسفه لكنه لم يتعظ) ص340 ولهذا فإن التحولات التي صادفت الشخصية كثيرة بدءا من أيام الدراسة المختلفة حتى الجامعة وعلاقاته المتشعبة والمتضاربة وغير الموفقة التي جعلها الروائي على أساس انها متون متعددة للكشف عن الماضي وبالتالي وقع في هذ الجانب في فخ ضخ المعلومات وما يجاوره من شخوص لا يؤثر وجودهم على الصراع والفعل الدرامي وتصاعد الحدث بقدر ما يمنح وجودهم قدرة على ان تكون الشخصية متفلسفة لواقعها ومن خلالهم يتم الكشف عن تلك الجذور التي أرادها الروائي أن تكون محمولة على عاتق المستوى التحليلي.. لهذا تكون الفكرة بما يرتبط بمدرس فلسفة الذي يعاني من الحياة السياسية ولا يجد أذنا صاغية ولا يريد ان يكون أداة بيد السلطة ويعتقد ان الفلسفة هي الحل أو ان اختصاصه الفلسفة جعله يقع في مطبات المواجهة والتقليبات حتى في الوعي الثقافي والاجتماعي وتجعله غير ثابت في التفكير، لذا فان كل ما يترتب على الفعل الفلسفي كونه نتيجة حتمية لما آل اليه الواقع الذي تصل بالنتيجة الى فصله من الوظيفة ومن ثم إعدامه.. وما بين هذين الحالين تقفز الفلسفة لتكون مرادفا للفعل التدويني. حيث يعود المتن كل شيء الى الفلسفة وهو ما يتضح من ضخ كميات الكبيرة من أقوال وشخوص فلسفية، أرادها أن تكون معادلا موضوعيا للشخصية الرئيسية سواء تلك التي جاءت بالأقوال أو الأحاديث أو التجارب المواجهة او تلك لتي حصل معها تعدي وقدح وهتك وسجن واحراق عبر التاريخ، بل حتى من خلال تبئير السؤل بمنطقيات عديدة (هل على الانسان أن يجرد الامور من أرديتها الجميلة ويعريها حتى تبدو مقفرة)ص269 حتى ان بعض هذه المعلومات التي ضخت تأخذ أكثر من صفحة في تعدد مرهق للجذور الفلسفية وهو ذات الامر ينطبق على تعدد الشخوص غير المناسبة التي تمكنت العناوين الفرعية من سحبها من غرق الحكي التقريري. لكنها أيضا تعطي الملمح السياسي لفترة مربكة جدا في الحياة العراقية.
إن تلك أسفاره تتحدث عن شخص مرة يكون غائبا في صيغة الروي أو يكون متكلما في معالجة سردية متناوبة تصعد مرة في رفع المستوى السردي الى اعلى المستوى ومرة تكون في حالة صفرية مع خط الحكاية، بمعنى أنها تسير على ذات الخط المستقيم فلا أحد يرى الآخر.. ولهذا فان الرواية بدأت بإعطاء مفاتيحها منذ الصفحات الأولى حين بينت من خلال طريقتين. الأولى: العنوان الفرعي الأولي الذي جاء ( ما بعد الأسفار 1 وما بعد الاسفار 2 وهما سفران خارج الشخصية الرئيسية والتي كشفت بعض العلاقات التي تسبق جميع الاسفار الأخرى التي يصل عدها الى 41 سفرا.. لتنتهي بفصل ( عودة، سفر البداية/هذا ما تبقى منا) رغم ان بعض التفاصيل لم يتم كشفها كليا في (ما قبل السفرين) كون الروائي جعل متنه شبه غامض للبحث عن الشخصية (المريضة) وعلاقته بالطبيب التي يتم الكشف عنها في فصول الاسفار.
مستويات الروي
تعتمد الروية على المستوى الإخباري لتوضيح معالم الشخصية لرئيسية وهو مستوى يمنح الحكاية بعض ملامح التحول الى السرد الذي تلاعب به الروائي على لسان راويه المتعدد الالسن والصفات والتحولات.. فهو يتنقل بين الغائب ولمخاطب والمتكلم في اغلب المتون سواء اجتمعت هذه الصيغ في سفر واحد او بعضا منها بحسب ما يأتيه الراوي من حديث عن مفصلية من مفصل الشخصية التي تتنقل ما بين الريف والمدينة والانتقال من تحولاته الثقافية والتقاليد العشائرية والمدنية حيث المدينة وفضلا عن الإخبار المرجعي للأحزاب الاخرى والصراع بين المدنية والشيوعية والسلطة بحزبها والصراع ما بين الكتاب وقارئه واهمية هذه الكتب في تجذير العلاقة.. لهذا اعتمد الروائي على طريقة روي متنقلة. الاولى: الإخبار السريع بجمل سريعة متراصة مواكبة للحدث لحكائي. والثانية: الاخبار المستوفي لشروط الاسترجاع الماضوي للشخصية. والثالثة: الاسترجاع للمتون الفلسفية التي يحملها الشخصية الرئيسية وما تأثر به او أثروا من شخصيات اخرى، وهي استرجاعات طويلة في بعض الاحيان ضخّ فيها الروائي جلّ ما يعلمه عن الجواب لفلسفية حتى انها فاقت القدرة على ن يكون طالب جامعي يحفظ كل هذه الاسماء والمرجعيات والأقوال دون ان يسوقه على لسانه الحالي في لحظة التدوين وهو ما جعل الزمن ينقسم ايضا الى عدم أجزاء. الاول: الزمن الذي بدت به الرواية وهو زمن منا قبل لنهاية. الثاني: الزمن الذي قشر فيه الراوي شخصيته عير طريقة إزالة القشور عن لب الحكاية وهذا الجزء اعتمد على ثلاث أزمان ايضا.. الزمن الاول: زمن الطفولة. والثاني: زمن الجامعة والتنقلات الفكرية والاضطرابات العاطفية والشخصية والسلوكية. والثالث: زمن الوظيفة والتحولات السياسية.. اما الجزء الثالث هو الزمن النهائي حيث تتكشف خيوط الروي والنهاية الحتمية التي بات المتلقي يعرفها منذ البدء.. وكل هذه الازمان تجتمع في محمول المستوى الفلسفي الذي يبرز في كل مفصل من فصول الرواية وهو بهذا ادار الحدث عبر مستويات الإخباري والفلسفي والقصدي فيما كان المستوى التصويري او الوصفي مخبوءا في تفاصيل قليلة لا ترتبط بالجانب الفلسفي بل بتوسيع رقعة الجغرافية المكانية. وهو الامر الذي احتاج الى لغة تريد ارتداء ثويب السرد والتخلص من الحالة السيرية التي جعلت الراوي كلي لعلم بكل التفاصيل سواء تلك المتعلقة بالشخصية التي تتحدث عن نفسيها او الشخصيات الأخرى التي جاء بعضها وكأنها لون على لوحة، ولكن وضعها في زاوية لا تكشف أهمية حضورها الفعال.. وهذه اللغة أخذت ثلاث اتجاهات. الاول: اللغة لفلسفية التي تأتي على لسان الشخصيات سواء المرافقة له او التي تأثر بها والتي زخرت الروية في ذكر اسمائهم التي قد تكون مرهقة لكن الراوي ردها محمول ثقافي مرجعي للروائي الذي هو ذاته الراوي الكاشف عن تفصيل الأثر الفلسفي. والثاني: اللغة الإخبارية لتي تعالج الحركة السردية في المكان المحدد الذي يتشعب كثيرا الى اماكن متعدد من الريف الى الجامعة الى المدينة الى المدرسة الى الوظيفة الى النهر الى التيه وهي لغة بسيطة في التدوين لأنه أي الروائي كان معنيا بسكب ما يريده من كميات كثيرة من الفلسفة.. والثالث: هي اللغة التي تأتي على لسان الشخوص وهي ما بين الاتجاهين السابقين في رؤية حكائية أقرب منها الى السردية، وخاصة تلك التي يجنح فيها الى التحليل العام لتبيان الأثر الكمي للوقائع التي تحصل في المتن للروائي.. وهذ الطريقة جعلت ايضا عملية ترتيب التدوين غير معنية بما يمكن ان يكون عليه الشكل.. فهو يقع بين ادغام الحوار مع التقطيع وبالتالي جعل المتلقي يبحث عن من الذي يتحدث وعن الموقف التقطيعي للتدوين.
تنوع الأسفار
الشخصية الرئيسية شخصية جدلية وهو ما سار عليه الروائي لتوضيح معالمه لكي يتمكن من منح الخلاصة عدة بقع ضوئية.. الاولى: الرؤية الفلسفية للبطل الذي لا يريد ان يكون هامشي في مجتمع تحكمه سلطة تريده أن يكون في الهامش. الثانية: الرؤية الحكائية عبر ذكر كل ما هو متعلق بالشخصيات وما يرافقه من خوف وفعل وارباك وحتى انفصام..الثالثة: الرؤية الروائية للحكاية التي جعلت المستويات تتصارع مع بعضها وهو ما جعل الروائي لا يهتم بتسلسل الأحداث بمنطقيتها بقدر اهتمامه بما يمكن ان تمنحه من منطقية تواجدها في جسد الرواية. ولهذا فان كل سفر يبدأ بصيغة الغائب إلا القليل منها تبدأ بطريقة الحوار او السؤال الفلسفي وهو ما يعني صناعة راوٍ موازٍ للراوي العليم والراوي الضمني الذي يمهد للتحول الى صيغة المتكلم او العكس من المتكلم الى الغائب وما بينهما تبرز صيغة المتكلم يكون بارزا في توطيد العلاقة ما بين السيرة الذاتية الحكائية والمتن السردي الروائي.. ولهذا احتاج في المتون السردية الى ثلاثة أقسام. الاول: متن وصفي إخباري. الثاني: متن حواري حكائي. الثالث: متن سردي زمني مع مراعاة تغييب المكان الملموس والاكتفاء بما تمنحه اللحظة المحسوسة من تقريبية الى وعي المتلقي على اعتبار ان كما يحصل خرج عن نطاق قصدية الفلسفية بما هو معني بالصراع الاجتماعي قد حصل في كل زمان ومع أية شخصية معارضة او مثقفة وهي لعبة تدوينية بدت واضحة حتى من تحليل الشروح وتحويلها الى متقطفات زمنية ومنها جعل حوار داخل حوار وداخل حوار آخر ضمن عملية تقشير ما تراكم من الاسفار وهو الأمر الذي جعل المتن الحكائي ينشطر الى شطرين.. الاول: هو المحمول الفلسفي وهو ما جعله يسكب الكثير من المعلومات التي تدل على ثقافة الروائي واهتمامه وهو ضرورة اهتمام الراوي وبالنتيجة جزء من أسفار الشخصية المحورية.. والثاني: المفتتح الاجتماعي وما يرتبط به من صراع سياسي وعلاقات اجتماعية وجذور وهوية.. ولكن كل هذه الصراعات كانت ترتبط بالشخصيات والاحداث من محيطها الخارجي ولم يكن هناك غوص في الاعماق للتدليل على الفعل الدرامي للأحداث كلها كجزء من التفعيل السردي وهذه الطريقة التدوينية أثرت بشكلٍ فاعل في المستوى السردي لان المحمول الذي ركض وراءه الروائي كان المحمول الفلسفي باعتبار ان الرواية تنتمي الى هذا المستوى بكليتها وهو ما جعل العنوان يبدو ملائما في الاشارة والتنويه والقصد.