في عصرنا حياة الأديب بعض أدبه
د.عبد العظيم السلطاني
نحن قرّاء اليوم، لا نعرف شيئا كثيرا عن الشاعر الجاهلي الحارث ابن حلزة اليشكري، مثلما لا نعرف شيئا كثيرا عن شعراء آخرين غيره، وليس لدينا سوى أشعارهم. فرسمنا ، مثلا، بعض ملامح غير وافية، لصورة الشاعر اليشكري وطبيعة حياته وواقعه، من خلال ما وصل إلينا من شعره. ومعلوم أنّ الشعر لا يقوى على رسم الصورة كما هي في واقعها. فنحن لم نر اليشكري رأي العين، وأخباره شحيحة، لا تساعد مخيلة المتلقي حتى على رسم صورة افتراضية وافية. فبقي شعره في ذهن القارئ نصا مجرّدا من حضور الناص.
وبعض الأدباء التراثيين لهم أخبار هنا وهناك، رفدنا بها بعض الكتّاب والمؤرخين. أخبار عن صفاتهم ومواقفهم في الحياة الواقعية، وعن أوصافهم من طول وشكل وسحنة وجه ووسامة أو قبح، وغير ذلك بما يساعد المخيلة على رسم صورة لأجسادهم وطباعهم وأخلاقهم، أو لرسم مشاهد حياتية كانوا أبطالها بإرادتهم، أو أجبرتهم ظروف الحياة على أن يسلكوا ذلك المسلك. مهما تكن براعة المخيلة تبقى تلك الصور غائمة ضبابية وليست هي الواقع، لأنها نتاج المخيلة الفردية التي تختلف من متلقٍ لآخر. فهي بمرتبة أقل بكثير مما لو التقى به قارئ اليوم فرآه و سمعه، أو تحقق للقارئ المشاهدة والسمع من خلال فلم تسجيلي لذلك الأديب. فنحن لم نر بشار بن برد رأي العين وهو يقرأ شعره، ولم نر عينيه الحمراوين المقتلعتين من محجريهما، كما تقول بعض الروايات، ولم نره نزقا متهتكا، مُصوَّرا في فيلم تسجيلي بالصورة والصوت، وتتناقله مواقع التواصل الاجتماعي، مثلما يحصل هذا التسجيل لأدباء اليوم.
ينشر أديب اليوم حياته اليومية، فتجد صوره على ((الفيسبوك))، فلست بحاجة للخيال لترسم له صورة في ذهنك وأنت تقرأ نصّه. فأنت رأيت صورته الفوتوغرافية كثيرا، ولعلّك تابعت ((فديوهات)) له، حتى صرت تعرفه. واقتربت من شخصيته الحقيقة، وتابعت مشاهد حياته، تلك التي أرادك أن تراها، أو تلك التي ظهرت للناس خلافا لرغبته. وكيف له أن يخفيها في عالم اليوم؟! فآلات التصوير في كل مكان، وهواة التصوير أكثر من أن يُحصوا، وهواة مشاهد الإثارة قاعدةً وليسوا استثناءً. وقد تتضمن بعض المشاهد صورا دالّة على نزق هذا الأديب أو ذاك، وقد تدل على تواضع، وقد تدل على سمو ورفعة. وقد تجد الأديب يقرأ بعض نصوصه فيُخطئ في النطق ويُخطئ في النحو... يمكن أن تراه في الأحوال كلّها، بما فيها تلك التي تُصغّر من شأنه حدّ الاحتقار وتُضعف حضوره حدّ التلاشي، وقد تمنع كثيرا من القرّاء عن متابعة أدبة.
كل هذا متاح الآن في عصرنا الرقمي، وكل هذا يتشابك فيه النص مع كاتبه لدى المتلقي، شاء أم أبى. فيُنتج قراءة متأثرة بصورة الأديب الإنسان وبسلوك الأديب الإنسان، على الرغم من أنّ كلّ هذا خارج النص الأدبي. لكنها غريزة المتلقي الإنسان، التي تسعى إلى التشبّث بالمحسوس، فإن لم تجد صورة الأديب حاضرة في الواقع صنعت له صورة افتراضية. ولكن شتان بين الصورتين!. صورة واقعية بالصورة والصوت، تقطع الشك باليقين، وأخرى متخيلة مصنوعة بفعل اللغة، فهي إمّا صنعتها المخيلة من أدب الأديب، أو صنعتها المخيلة من أدب الأديب ومن معلومات عنه، قد تكون صدقا أو كذبا.
صورة الأديب، الآن، حاضرة بكل تفاصيلها الواقعية في ذهن القارئ بفعل منشورات الأديب نفسه من ((بوستات)) تخص أخباره وفعالياته، أو من خلال صور فوتوغرافية أو ((فديوهات)) أو بفعل ما ينشره الآخرون عنه من صور وتسجيلات، سلبا أو إيجابا. فكل شيء مكشوف، مُشاهَد ومسموع، ولا شيء يبقى لمخيلة المتلقي في الرسم كي تنهض برسمه.
في عالمنا الرقمي وتقنياته تغيّر كل شيء حتى القراءة. ومن ذلك أنّ هذه التغيرات لا تبرهن على علاقة النص الأدبي بكاتبه الإنسان فحسب، وإنّما هي تفتح بابا على فهم القراءة وتحوّلات القراءة بوصفها ممارسة ومنجزا، فهي الآن صارت خاضعة لمتغير جديد هو عالم القنوات الفضائية ووسائل التواصل الاجتماعي الرقمية، وما يُنشر ويُذاع فيها للأديب، ما يسجّله هو أو ما يُسجَّل له، فيؤبِّد ممارسته الحياتية في الواقع خارج النص المكتوب. وهي وإن كانت خارج النص، فمَنْ يكبح ميول المتلقي في مقارنة أدب الأديب بممارسته الحياتية؟!.
ماذا لو تداول الناس فيديو "مسرّب" بالصوت والصورة لشاعر كبير كالمتنبي وهو في موقف جبن لا ينتصر لنفسه ولا يواجه خصما، أو وهو يدمي إصبعه بحثا عن درهم ضاع منه بين أثناء حصير؟!، أو حين يُشاهَد المتنبي في فديو يُزاحم الغلمان ويهين نفسه، من أجل بضعة دراهم نثرها سيف الدولة، كما تذكر بعض المرويات؟! فهي إن كانت مجرد روايات حينها يمكن أن يخامر قارئ شعره الشك فيها، وقد يُقنِع نفسه بأنّها روايات حسّاد المتنبي ومبغضيه، فصورة المتنبي من خلال شعره ليست كذلك، فالمتنبي يرسمها نفساً عظيمة أبيّة، ويرسم صورة ذاته مترفعة عن الصغائر... كل هذا يمكن أن يقوله المتلقي لنفسه لاسيّما حين يكون من محبي المتنبي والمعجبين به. لكن إلى ماذا يلجأ هذا المتلقي - أو غيره - ليرمم صورة المتنبي التي رسمها له من خلال شعره؛ إذا كان المتنبي يظهر في ((فديو)) بالصوت والصورة على تلك الحال المزرية؟! وهل سينجو شعره من نظرة الاستصغار التي شاهد بها القارئُ المتنبي الإنسان في تلك المشاهد المزرية مسجّلة بالصوت والصورة؟! أكبر ظنّي أنّ شعره لن ينجو من نظرة الاستصغار تلك، في الأقل من جهة مطابقة قيم النص الأدبي لقيم الأديب الإنسان.