recent
أخبار ساخنة

النبيذة: نوستولجيا المُدن والحب

الصفحة الرئيسية
النبيذة: نوستولجيا المُدن والحب 

كه يلان مُحَمَد - كاتب عراقي 

تستمدُ الأمكنةُ خصوصيتها من الذكريات التي تختزنها وتقاومُ بها سيولة الأحداث والتحولات ومايستتبعُ ذلك من التقلبات في الطبائع على المستوى الإجتماعي والسياسي لذلك فإنَّ المشاهد التي تعجُ بها الذكرةُ تُستعادُ ضمن الخطابات السردية عندما يكونُ الواقعُ مُثخناً بالهزائم والإنكسارات إذ يربطُ الدكتور حسن النعمي ظهور الفنون السردية والسير الشعبية بحالة الإحباط التي تَمرُ بها الأمة.لايجانبُ هذا الرأي صواباً إذا نظرنا إلى ماحملتهُ تطورات مابعد 2003في العراق من أعمال روائية قد تفوقُ على كل ما قدمت قبل هذا التاريخ،ومن بين الأصوات الروائية التي تتزاحمُ بها الساحة الأدبية تُعد الكاتبة والروائية العراقية إنعام كجه جي من القلائل الذين تمنكوا من تأثيث موادهم الروائية بتأنٍ وبدافع إبداعي محض لذا يجدُ المتلقي آلية مميزة لدى إنعام كجه جي في معالجة الثيمات المتنوعة حيثُ لاتكتفي بتحويل ماهو حاضر وعيانى إلى مادة مسرودة بل تتفاعل شخصياتها الروائية مع الحاضر وتسترجعُ الوقائع التاريخية في آن واحد،
وبذلك تستكملُ عناصر وصفتها الروائية،وتندمجُ مُعطيات الماضي مع مايَفور به الحاضر من التطورات المُتَلاحِقة في نسيج سردها الروائي،وهذا الإجراءيتمثلُ أكثر في عملها الجديد (النبيذة) الصادر من دار جديد-بيروت. تدور الرواية حول حياة شخصية إشكالية ولدت في إيران ونشأت في العراق منتسبةً إلى زوج أمها وعرفت بإسم تاج الملوك عبدالمجيد ما أن تظهر مفاتن الأنوثة على جسدها حتى تغادرُ منزل الأم وتقيمُ لدى طبيبة وتلمست تاجي أولى خطواتها نحو عالم الصحافة عن طريق شقيق الدكتورة،إذ بدأت بنشر المقالات والخواطر الأدبية إلى أن تتخذ العمل في الصحافة مهنةً وتنضم إلى صحيفة النداء ومن ثُمَّ تطلق مشروع مجلة الرحاب بدعم من القصر الملكي الأمر الذي يفتحُ لها الباب على عوالم جديدة ولاتسعُ جِغرافية معينة لحجم طموحاتها كما تجمعها الصحافة بشخصيات سياسية نافذة وتتيح لها فرصة المعايشة عن الكثب للحظات مفصلية في تاريخ العراق إضافة إلى كل ذلك تعيشُ قصة حب فريدة مع منصور البادي فالأخير من الفلسطين عاني مرارة الهجرة القسرية إثر هزيمة 1948 وشد رحاله نحو بغداد بحثاً عن أفق جديد هنا يسمع بإسم تاجي ويقرأُ ماخطه قلمها دفاعاً عن فلسطين إذ تملكه رغبة رؤية هذه الصحافية الجريئة غير أنَّ مسرح اللقاء سيكون خارج بغداد.

مرجعية تاريخية

تتواردُ معلومات تاريخية في متن رواية (النبيذة) كما ينهضُ السردُ على وجود شخصيات حقيقية إلى جانبِ ما أضافته الكاتبة من شخصيات خيالية وهذا مايؤكدُ على إنوجاد حلقة تواصلية بين سيرورة روائية ومُنعطفات تاريخية،مايعطي مزيداً من الأهمية لشخصية تاجي ليس أبعادها المُتعددة فحسب إنما مركزية دورها في عقد الترابط بين الشخصيات المتوزعة في فضاء النص هذا إضافة إلى الكثافة الزمنية التي تتحققُ بواسطةِ إندماجها مع المراحل التاريخية المختلفة هنا تُكمل الموسيقية وديان الهاربة من مُستنقع غرائز الأستاذ مربعاً آخر من الزمن العراقي الدموي حيث قضت غرائز الأستاذ المُعاق على قصة حبها مع يوسف وذلك بعدما يُعطلُ إبنُ الشيخ حاسة السمع لديها فالبتالي تفقد علاقتها مع الموسيقا ولاتمسكُ بالكمانجة إلا في فرنسا إذ تجدُ في الغربة تاجي التي حملت إسم زوجها الفرنسي وأصبحت مدام شامبيون مع أن الضابط في وحدة مكافحة التجسس ميسو شامبيون لم يكنْ مغرماً بها غير أن شخصية تاجي كانت مؤهلة لتقوم بتنفيذ عملية إغتيال المناضل الجزائري أحمد بن بله الذي كان عدوا لدوداً لفرنسا ومن المفارقات الغريبة أن إختيار تاجي لهذه العملية قد صرف عين الفرنسيين عن شخصية المناضل وذلك عندما تحايلت عليهم وأخبرتهم بأنَّ من رصدوه ليس بن بله.ومن ثُمَّ تجمع إحدى مستشفيات باريس بين إثنين في العقد الثاني من الألفية الجديدة عندما تتداعي كراسي الحكام في البلدان العربية.هكذا تتشابكُ حقب زمنية في قصة تاج الملوك التي لم تتخلَ عن إبنتها وهي من رجل له جذور من سلالة قاجارية صادفته في خرمشهر .ومن جهة أخرى يتابعُ المتلقي ملمحاً تاريخياً آخر مع شخصية منصور البادي الذي لاينفصل مسار حياته عن سلسلة من الثورات الخائبة التي فشلت في إستعادة فلسطين حيث تتراكمُ الدوافع التي تجعله أن تتخذ قرار الإلتحاق بأخته في فنزويلا لاسيما بعدإسدال الستار على تجربة كراتشي التي إحتضنت أحلام القادمَينِ من بغداد وفلسطين.وهناك يشقُ المثقف المغترب طريقاً جديداً ويصبحُ مُستشاراً لهوغيو شافيز.وما يظلُ ثابتاً لدى منصور البادي هو حبه لتاجي إذ يُمنى النفس بلقائها في باريس.


مستودع الذاكرة

تعتمدُ صاحبة (طشاري ) على صياغات متنوعة لتحبيك المادة المروية ولايتبعُ عنصر الزمن في الرواية خطاً مُتتابعاً إنما تُمحى الخطوط الفاصلة بين الإزمنة بفعل الإسترجاعات المتتالية كما تُفضل تقطيعَ حكاية الشخصيات وبسطها على مساحة الرواية بحيثُ أن المتلقي يستشفُ وجود علاقة شامبيون بمحاولة إغتيال المناضل بن بله غير أنَّ كشف عن تفاصيل هذه العملية تؤجل إلى الأجزاء الأخيرة من الرواية.كذلك بالنسبة لزيارة منصور البادي مرافقاً لشافيز إلى باريس ومحاولاته بتواطؤ مع وديان مندوبة تاجي لترتيب لقاء مع الأخيرة إذ يعترفُ الوافد في الفقرات الختامية بأنه تعمد لعدم إكمال اللقاء.بعدما يلمحُ إجتياح الشيخوخة لمحيا تاجي أضف إلى هذا فإنَّ تقنية الرسالة ونكش صندوق المقتنيات المعبقة بنفحات الماضي تدعمُ البناء الفني للرواية ومايلفت النظر في هذا الإطار الإهتمام بالتمثيل البصري إذ يبلغُ إلى مستوىً يولد الإحساس لدى القاريء بأنَّه أمام مشهد سينمائي وذلك يظهر في إستعادة لحظة الفراق بين منصور وتاجي فالأخيرة على متن باخرة متشبثة بسياجها فما من منصور إلا ويتلقط مجموعة من الصور للمسافرة إلى طهران،أكثر من ذلك فإن مؤلفة (سواقي القلوب) تُفاجِئُك بإيراد حكاية صورة الغلاف في تضاعيف الرواية و ماهي إلا صورة لتاجي إلتقطها مصور في شارع الرشيد إذ يذكرُ الراوي الخارجي تركيبة الصورة وإيحاءات الجسد والعين،وبذلك تتحول صورة الغلاف إلى وحدة مرجعية للسرد ولم يسبق لغير إنعام كجه جي أن ربطت بين السرد والصورة بهذه الصيغة كما أن العنوان له إمتداد في طيات النص فهذا الإسم هو أطلقه منصور على تاجي عطفاً على كل ماسبق فإنَّ الكاتبة توظف أسلوب الحوار الصحافي بغرض تكوين هوية الشخصية الإساسية كونها صحافية وبذلك يكون تناثر الأحداث والتواريخ في ثنايا العمل مثل وثبة 1948 ومعاهدة بورتسموث زيارة أم كثلوم إلى بغداد ونكبة 1948 وإصدار حكم الإعدام على فهد ورفقائه أمراً مُستساغاً ولايكون حشواً.وأنت تقرأُ هذه الرواية التي تتراوح أحداثها بين الحاضر والماضي تتأكد من إكتساب شخصيتي وديان وتاجي الملوك دلالة رمزية الأولى تمثل عصراً وئِدت فيه كل الرغبات وإستغرق فيه الإنسان داخل إستيهاماته أما الثانية تُمثل حقبة زمنية مفعمة بالأمل وإطلاق العنان للرغبات مايجمع بين شخصيتين تشوق على حب لاح وإختفى ومدينة بغداد التي تبدو أجمل في الصور القديمة على حد قول وديان .ماتهدف إليه هذه الرواية ليس محاكمة التاريخ بل بلورة وعي جديد بأفراد وشخصيات صنعت أحداثاً لها أمتداداتها في الحاضر.
google-playkhamsatmostaqltradent