الشاعرة رند الربيعي،
شبعاد الألفية الثالثة...!
وجدان عبدالعزيز
جاء ديوان (واقشر قصائدي فيك) محملا بالوجع والفقد، يبحث في مظان الاشياء عن فرحٍ مفقودٍ في اتون حرب مستمرة باوجاعها .. حتى الطيور محلقة من حقول خضراء مغردةً بحزنٍ تليد من ازمان الحزن السومري، وكانت الشاعرة رند الربيعي غارقةً في سمفونية الفقدانات المتعددة، تلحن اغنية الحلم (في آهات الشجن/من غول الليالي) وعلى جنح فراشة تبحث عن رحيق الخبز.. وفي هذا الديوان ايضاً اناخت الشاعرة راحلتها في ساحات التعب النفسي، والبحث عن الامل بجمالية الشعر، فكان الشعر صنو بحثها عنه، ذلك الاخر، الذي يشاركها محنة الوجع..تقول الربيعي:
(بين رفوفِ الذكريات
اسرقُ القوس من قزح
لئلا تبتلعهُ غربان الموتِ
ساعة فجر كاذب
تطرقُ الاقدار جماجم الابرياء
بين كل هذا الغيابِ
اراك جندياً
يبتهل في محراب القتال
لا تندهش...
حين يضرجني الوجع
شهيدةٌ انا مثلك
مراجلي تغلي بي
وفوق خصري هالات مستديرة
لشجرة قديس ساعة ابتهال)
لتكون في قلب الهم الانساني، تعيش الذكريات الحافلة بالحذر من غربان الموت، تخاطب الاخر : (لاتندهش..)، فالوجع يضرجني شهيدة مثلك، لكن بوقف التنفيذ، اي وانا على قيد الحياة، الوذ بشجرة قديس ساعة ابتهال، لتعيش صراع الموت بين اللحظة والاخرى، وتعمق رؤيتها من خلال قولها:
(في قلوب مازالت احاديثها كركرات طفل وخبزة فقير ...
على قارعة وطن ضيق لايتسع
للنوم
إياد تلوح باكية ،
قلوب رماد،
الموت سلالم من نور)
وكانت القرينة بين الخبز كأمتداد للحياة والطفولة، البرعم النامي، وبين سلالم الموت، حيث تكون حاضرة..اذن رؤية للشاعرة الربيعي تجمع بين الحياة والموت، لتعطي دفقات امل، رغم انه بعيد جدا، كون الحرب تتناسل بين الاصابع، فـ(هكذا من كلِّ شيء تولد الحرب)، وتعيش لحظات اللقاء مع الاخر، لتقول:
(من بين اصابعك
من بين خصلاتِ شعركَ الذي احترفَ الفجر
من تحت قميصك
من ازرارهِ السفلى
من فوضى عطركَ
من شوق يولدُ راكضاً
من حقيبتك التي أغارُ منها)
فاللقاء المقرون بالذكرى، يجعل الشاعرة تعيش شوقا راكضا، بعلة غيرتها من حقيبته، كدلالة على سفره المستمر، وهذه العبارات توحي باشتعال الحرب واستمرارها، بدلالة حبيبها المقاتل، وقد تكون فقدته، كما يتبدى من خلال قولها: (كون الأشياء اختراعا أحيانا/الشاعر يخترع حبيبة على شكل فراشة/ يطير معها منتشيا حقل الأزهار/الشاعرة تخترع حبيبا على مقاس صفعتها/ليس على هيئة فاندام مثلا/ اليتيم يخترع أبوّة صامتة/ وربما)، وهنا توحي كلمة(مقاس صفعتها)، اي انها تستدعي ذكريات لقاءاتها معه في الزمن المقتول هو الاخر، فهو اختراع لا غير ذلك..
(صيرتني امرأة
تخيط قمصان الفصول
ربيع يبتهجُ فوق أرضكَ
حتى لو كنت بعزلةِ أنبياءَ
تنفرط فصولي جلناراً لكَ
تتوهجُ شمساً،
قمرا
أضواء ظلماء
هل شاهدتَ من قبل أضواء ظلماء
كل هذه الخطوط على ظهر قصيدتي
رسمتها أنتَ
هو انتَ..)
والظاهر ان الشاعرة الربيعي، بقيت تعيش اجواء القصيدة في ظل فقدان الاخر، دليلنا قولها: (كل هذه الخطوط على ظهر قصيدتي)، تجتر ذكريات الحبيب الساكن بين حروف قصيدتها، وكأن هذا الحبيب المفقود، هو الذي يرسم خطوط القصيدة، ثم تقول في قصيدة اخرى: (ألوانُ نورسٍ يُحلّقُ بجناحٍ مَكسورٍ/رغمَ عشقِ النهرِ.../أرقامُها أزرارُ محطاتٍ/يالَبكاءِ النوايا!
أنينُ الزّهرِ خلفَ الذكرياتِ/هنالكَ.../في أقصى زاويةِ الفَقدِ/تطاولَتْ أمنياتٌ)، فهي تعيش انين الزهر خلف الذكريات، وهنا صدقت نبوءتنا في ان الشاعرة الربيعي عاشت اوجاع الفقدانات والموت والغياب، لكنها رغم هذا الوجع تفخر انها سليلة حضارة عميقة الاغوار في التاريخ الانساني، لذا تقول:
(ياسيدي المبجّل هل كتبت قبلي إليكَ إمرأة ٌ؟
وأخبرتك إنها الحاضرة والحضارةٌ
وإنها مسلّةٌ زقّورةٌ ،بل إنها تأريخُنا عراقةٌ ....
وشارعُ الموكبِ ومواكب العذارى
ذي حضارةٌ وفجرُها بغداد
حناؤها البصرة
إكليلُها ذي قار
ربيعها نينوى
قنديلُها شبعاد
إسمي من السماء حوريةٌ أنا،
ووردةٌ حمراء ياعطرُها المندّى إيقونةٌ حسناء
مَنْ قال إني هكذا ؟ مَنْ قالَ إني خُرافةٌ ؟
اللّهُ .. حتى اللّه ! ها قدْ خصّني بكتابهِ)
حيث التناص مع مسلة زقورة ومواكب العذارى، وكأني بها تخاطب الاخر الساكن روحها، انها امرأة خالدة، مثلها مثل شبعاد، فهي لم تكن امرأة عادية، لان الله خصها بكتابة، أي انها تعيش رغم الموت، كما هي العنقاء، وانك لم تأت في ليل الضياع بقيت اصابعها تشير اليك، حتى تركت ندوبا على جسد الايام، لكنها تقول في موضع اخر: (رأيتُ صبية يرتلون الوطن)، فـ( لاتقل ياحريمة/كنت اشمك بصوت جدي المبحوح)، (حتى قصائدي غادرتها في الطريق إليك)، كي تعيش الشاعرة ذكريات حبيبها الخالد، كخلودها من خلال القصيدة اولا، ومن خلال انها سليلة شبعاد، وهي أحدى الملوك التي حكمت وادي الرافدين العظيم في سومر (الناصرية) جنوب العراق زمن الحضارة السومرية، والتي تربعت على عرش سلالات سومر الحديثة في النصف الاول من الالف الثالث قبل الميلاد، تلك التي سكنت جنوب العراق قبل اكثر من خمسة الاف سنة، زوجة للملك اباركي ملك اور، ونحن ان اسم شبعاد اقترن بالقيثارة الذهبية السومرية والمقبرة الملكية، هذا اظهر لنا مدى قدرة الشاعرة على استثمار وجه التراث المشرق والمحمل بالكثير من المعاني الكبيرة، وبالتالي تبدت لنا قدرة الشاعرة في التوظيف والمثاقفة بين التراث والمعاصرة، مما جعل ديوانها الشعري (واقشر قصائدي فيك)، ذا ابعاد عميقة من خلال العيش وسط اوجاع الحرب، ورغم الوجع يرسم هذا الديوان حالات التمسك بالحياة والخلود...