من
((مشاهدات مجنون في عصر العولمة))
استاذ الدراسات اللغوية والاسلوبية التداولية - كلية اللغات- جامعة الكوفة
ما من شاعر من الشعراء المعاصرین الاّ وعَقَدَ مرة تفعيلاته ندّاً أو فكرة ناهيك بالذين قصدوا هذا الفن لمزاجهم المرح أو لاسباب أخري، فاجادوا فيه وأكثروا. وعند دراستنا لهذا الموضوع وجدنا فریقین من الادباء یتخذون الکتابة الساخرة:
أ- فريق اتّسم بالروح المرحة دائماً فتجلّت في كل كتاباتهم ويعرفون بمزاج ساخر في كتاباتهم و نظمهم كله، وقد تنالوا السخرية من وجهتين:
1- في نظم مداعبة أو نادرة أو في ردٍّ شعري ساخر يختصر نكتة أو التفاتة طريفة.
2- توسعها في أغراض الشعر علي تنوعها أسلوباً يساعد في إظهار المعاني الطف وأذكى بخاصة في الهجاء حيث للسخرية باب واسع –كما هومعلوم.
ب- و فريق ثانٍ أفاد من الفكاهة في بعض كتاباته للنقد والهجاء. يستخدم الفريق الثاني فنون السخرية للنيل من الخصوم، أو لنقد مذهب أو أسلوب أدبي، فهي أمضي سلاح هجومي لا يخرق الاعراف و لا يتحدّى القوانين إذا أُحسن استعماله ظاهراً أو باطناً في عبارات والتفاتات ذكية.
ونحن فی هذا المقال بصدد الاشارة الی السخریة فی شعر الاديب العراقي المميز حميد لفتة الحريزي الفتلاوي.
مفهوم السخرية:
تستهدف السخرية في جوهرها نقد الحياة ، أو تغيير بعض الظواهر فيها ، وهذا التغيير أو التطوير ، يبدأ أولا بتشخيص الحال ، ومعالجة الخلل فيها، والسخرية بدورها لا تكتفي بالنظر إلى الأشياء من السطح ، ولا تقتصر في تشخيصها للخلل على ظواهر الأمور ، وإنما قد تشك في الإنسان ذاته، وفي النظام العام الذي يسيّر العالم ، فتصبح مفهوما عميقا ، ونظرة شاملة ، "وكأنما أريد لها أن تحل محل الفلسفة والأخلاق" . وتعتمد في ذلك أساليب بارعة ، تدخل إلى الناس مداخل شتى ، فتستنهض عقولهم أحيانا ، وتدغدغ مشاعرهم أحيانا أخرى ، وقد تلهو بكينونتهم ، فتصبح سلاحاً متعدد الأطراف ، وهذا يزيد من تأثيرها وقوّة سطوتها ، ويوسع دائرة نشاطها. في حين أن الجِدّ حالة عادية غير طارئة، ( ) ولا تخرج عن المألوف في النظر إلى الأشياء ، وفي التعامل معها، وليس في هذا ما يدعو للسؤال أو الغرابة . ولا نبالغ إذا قلنا :" إن الموقف الساخر هو الأليق بواقع الحياة وتناقضاتها".
ويرى ابن رشيق أنّ السخرية لها تأثير شديد ،إذ يردد أن التعريض أهجى من التصريح ويعلل ذلك "باتساع الظن في التعريض، وشدة تعلّق النفس به، والبحث عن معرفته وطلب حقيقته" فإذا كان الهجاء تصريحاً أحاطت به النفس علماً، وقبلته يقيناً في أول وهلة، فكان كل يوم في نقصان لنسيان أو ملل"( ).ويذكر القاضي الجرجاني أن أبلغ الهجو ما خرج مخرج الهزْل والتهافت، وما اعترض بين التصريح والتعريض، وما قربت معانيه، وسهل حفظه، وأسرع علوقه بالقلب ولصوقه بالنفس. وقد يمزج الساخر بينَ الفكاهة والنقد ليسرّي عن القارئ، فيستطيع اقتحام نفسيته بسهولة ليحقق مبتغاه، وقد تظهر عنده الكوميديا السقراطيّة التي تتسم بالتظاهر بالجهل والغباء، فيبدو للسّامع أنّ السّاخر غبيّ وأحمق ولكن سرعان ما تنقلب الصورة بعد اكتمال عناصر السخرية.
ولهذا نجد الجاحظ يقول: "وإنْ كنّا قد أمللناك بالجِدّ... فإنّا سننشطك ببعض البطالات، وبذكر العلل الظريفة، والاحتجاجات الغريبة، فربّ شعرٍ يبلغ بفرط غباوة صاحبه... ما لا يبلغه أحر النوادر وأجمع المعاني، وأنا أستظرف أمرين استظرافاً شديداً، أحدهما استماع حديث الأعراب، والأمر الآخر احتجاج متنازعين في الكلام، وهما لا يحسنان منه شيئاً، فإنهما يثيران من غريب الطيّب ما يضحك كلّ ثكلان وإن تشدّد، وكلّ غضبان وإن أحرقه لهيب الغضب".
لَم يعرف العرب في الجاهلية السخرية بوصفها ظاهرة، بل غلب على أشعارهم الطابع الجدي، فعرفوا الهجاء الذي واكب المديح وسايره، وكان جزءاً مِن القصائد التقليدية، منبثاً في حماستهم وإشادتهم بأمجادهم وانتصاراتهم الحربية، وكان في جوهره تعبيراً عن احتقارهم للضعف والخَوَر، فدار فيما يتصل بذلك من القعود عن الغزو، والتقصير في حماية الجار، والعجز عن أخذ الثأر، والانهزام في المعركة، والاستسلام للأعداء، ووضاعة النسب، والبخل والفقر. واستمر الهجاء على هذه الصورة في صدر الإسلام، وإن كان بعض شعرائه قد فصلوه عن غيره من الموضوعات، وأفردوه في مقطوعات، وعابوا فيه مهجويهم بالكفر والشرك، ومخالفة الخلق القويم، وعُدّ الهجاء بالمفهوم السابق إثماً كبيراً لا يجوز أن يجري به لسان الشاعر، وخاصة المقذع منه، وقد فسّر عمر بن الخطاب الهجاء المقذع حين أطلق الحطيئة من سجنه بسبب هجائه للزبرقان بن بدر عندما قال له: "إياك والهجاء المقذع. قال: وما المقذع يا أمير المؤمنين؟ قال: المقذع: أن تقول هؤلاء أفضل من هؤلاء، وأشرف، وتبني شعراً على مدحٍ لقومٍ وذمٍ لمن تعاديهم".
وأمّا في العصر الأموي فقد نما الهجاء نموّاً كبيراً في شكله ومضمونه وغايته، واحترفه شعراء النقائض، حتى أصبح قصائد مطولة، مستغلين فيه التاريخ الجاهلي بما فيه من أنساب ومثالب، وحروب، وانتصارات، وهزائم، ثم التاريخ الإسلامي، ومواقف القبائل من الدولة الأموية وخلفائها، متوخين من نقائضهم التسلية والترفيه والإضحاك، لا تهييج الشر وتحريك الفتنة. وتبقى النقائض مناظرات أدبية أوجدتها ظروف عقلية وأخرى اجتماعية في عصر بني أمية أكثر من كونها هجاءً بالمعنى المعروف في الجاهليّة، والشاعر لا ينظم معاني بدوية بسيطة، بل ينظم معاني تتلاءم مع التطور العقلي الحديث الذي أصابه الذهن العربي، والذي طوّره من بعض جوانبه. وانتهى فن النقائض في القرن الثاني أو أوشك على الزوال بانتهاء الدوافع الاجتماعية والعقلية التي كانت تدعو إليه ، ثم بدأت تظهر في أوائل العصر العباسي ظواهر أدبية جديدة، منها الفكاهة التي سايرت الهجاء، حيث اتجهت كثير من النفوس إلى الفكاهة بغرض التسرية، وظهرت في الشعر أساليب التندر والتهكم، وتفنن الشعراء في صوغها. وأخذت شكلاً جديداً في تناولها للحياة.
ثم ظهرت السخرية التي تعمد إلى التقاط العيوب، وتصويرها ونقضها بطريقة مضحكة، ولا يعني ذلك عدم وجود بعض الأبيات الساخرة قبل العصر العباسي، فقد عُرف هذا اللون عند الحطيئة وجرير وغيرهما لكن في حدود ضيقة، ومع ذلك فإنّ ظاهرة السخرية وانتشارها في أدبنا العربي لم تبدأ بوضوح إلا ببداية المرحلة العباسية، وهي ظاهرة بدأت عند كتّاب ذلك العصر، إذ ظهرت عند الجاحظ في رسائله، وفي كتابه "البخلاء" ثم عند الشعراء ابتداءً من بشار بن برد حتى أبي العلاء في القرن الخامس، مروراً بأبي نواس وابن الرومي وغيرهما.
ويرجع ظهور السخرية إلى بدء النظرة المتحررة من الماضي، وإلى تفوّق الشعور الفردي الذي ظهر عند شعراء هذه المرحلة، فأصبح الشعور بالغربة والانفصال عن الآخرين يشكل ظاهرة عامة، يتسم بها معظم الشعراء العباسيين من أمثال بشار وابن الرومي وغيرهما، فكانت لهؤلاء الشعراء مواقف يقفونها من الناس والمجتمع ونظرات في الحياة ورؤى ذاتية، وكانت رؤية كل شاعر تختلف عن رؤية الآخر، وأدى ذلك إلى اتساع مضمون السخرية، وتعدد دلالاتها واختلاف أساليبها باختلاف كل واحد منهم، ولكنها عند الجميع تناولت مظاهر الحياة المختلفة بما في ذلك القيم الدينية التي حاول الشعراء تفسيرها، ونقل مصطلحاتها وألفاظها في إطار آخر.
وتعد السخرية من أبرز ملامح التحول في الموقف الشعري عند الشعراء العباسيين، فالصدام بين هؤلاء الشعراء ومجتمعاتهم وتقاليد الحياة في عصورهم وصل حد الرفض والإنكار والثورة أحياناً، وهذا عائد إلى الظروف التي غيرت وجه المجتمع ومنحته شكله الجديد لما نشأ من صراع سياسي وآخذر شعوبي واضطراب في مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية ثم تطور الحياة الفكرية والعقلية.
وأصبحت السّخرية في العصر العباسي ظاهرة تلح علينا في الوقوف عليها، ومتابعتها، والتعرف إلى شعرائها الذين صاغوا لنا آراءهم وأفكارهم بأساليب ساخرة، فخرجت حية نابضة تعبر عن موقف رافض ومتمرد أحياناً، وعن مشكلات نفسية واجتماعية أحياناً أخر، وقد شملت سخريتهم قضايا متعددة، نستطيع من خلال قراءتها أن ندخل إلى تناقضات شتى عاشها ذلك المجتمع وأثّرت فيه.
المعنى اللغوي:
يعود أصل هذه الكلمة إلى الفعل (سَخِرَ) بكسر العين، وهو فعل لازم يتعدى إلى مفعوله بحرف الباء أو من، فيقال سَخِرَ منه وبه، وهي لفظة تدل على أسلوب في التعبير يثير الضحك والاستهزاء ممن يكون موضع السخرية، فيقال: "فلان سُخْرةٌ وسُخَرةٌ يضحك منه الناس، ويضحك منهم، وسخرت منه واستسخرت، واتخذوه سخريّا. والسخرة: الضحكة ورجل سُخَرَة يسخر بالناس، وسُخرَةٌ يُسخرُ منه، وكذلك سُخْريّ، وسُخْريّةٌ، من ذكره ضمها،قال تعالى: "ليتخذ بعضهم بعضاً سخريّاً".
والسخرية في مفهومها البلاغي تعني: "طريقة في الكلام يعبر بها الشخص عن عكس ما يقصده بالفعل، كقولك للبخيل "ما أكرمك" ويقال "هي التعبير عن تحسّر الشخص على نفسه، كقول البائس "ما أسعدني". وعرفتها سوزان عكاوي بأنها " الهُزْء بشيء ما، لا ينسجم مع القناعة العقلية، ولا يستقيم مع المفاهيم المنتظمة في عرْفِ الفرد والجماعة.
وتتصل السخرية بالأدب اتصالاً وثيقاً حتى نُظر إليها على أنها فن أدبي بحاجة إلى مهارة وذكاء وقدرات إضافية في الموهبة، لأنها من أعسر الفنون الأدبية. كذلك فإنها تعبر عن شجاعة استثنائية، تصل بالشاعر إلى أن يجرب أحياناً سخريته على نفسه، ويصنفها محمد مفتاح في مرتبة بعد الاحتقار والاستصغار والاستهزاء.
نظرة عامة في الأدب الشعري الساخر:
الشعر العربي الحديث و المعاصر:
عندما نتصفّح دواوين الشعراء المعاصرين، نجد السخرية قد أخذت حيّزاً واسعاً من الشعر الساخر بالنسبة لأنواع السخرية الشعرية المستخدمة في شعرهم، و قد ساهمت السخرية السياسية في تمثيل الواضع الراهن في العالم العربي حيث تمنحنا صوراً واضحة عن قضاياه و تساعدنا في الإصلاع علي خفاياه من مختلف جوانبه، المحليّة و العربيّة و العالميّة، رابطة الأحداث بما يدور حولنا.
طبعاً، لم تقتصر السخرية عند هؤلاء الشعراء علي هذا اللون فقط، بل نجد في مجالات أخرى قد استطاعت السخرية أن تصوّر من خلالها معالم حياة العالم العربي لأن السخرية تنبثق مع كل حركة أو كلمة و لا تُحدّد نبوع خاص أو مجال محدود، و بالأحري نستطيع أن نقول: كلّ موضوع يصلح أن يكون محطّة للسخرية.
و لو أردنا أن نقسم الشعراء في مجال استخدم السخرية لجعلناهم في جماعتين: جماعة قد اتخذت السخرية أسلوباً في شعرها فتجلّت في كل شعرها، مِنْ أمثال: نزار قباني و أحمد مطر ،
فإنّ هذین الشاعرین أستطاعا أن يستخدما ألوان السخرية بغزارة في شعرهما لا سيّما في المجال السياسي، فالسخرية عندهما سلاح هجومي لا يخرق الاعراف، و لا يتحّدي القوانين إذا أحسن استخدامه ظاهراً أو باطناً في عبارات و التفاتات ذكيّة
و جماعة ثانية أفادت من السخرية في بعض أشعارها للنقد و الإعتراض، فنري قصائد ساخرة هنا و هناك في دواوينهم و أنهّم قد استخدموا السخرية في مجالات متنوّعة، دون أن تطفي السخرية علي شعرهم، من هؤلاء الشعراء: البياتي و صلاح عبدالصبور، و أمل دنقل و غيرهم.
علاقة السخرية بالسياسة:
«ترجع المعاني اللغوية للكلمة»السياسة«كما وردت في المعاجم إلي تدبير شئون الناس،و تملك أمورهم، و الرياسة عليهم، و نفاذ الأمر فيهم». «هذه هي السياسة، و يكون الشعر السياسي إذاً، هو هذا الفن من الكلام الذي يتصل بنظام الدول الداخلي أو بنفوذ ها الخارجي و مكانتها بين الدول».[17]
و حسب هذه التعاريف تكون بين السخرية و السياسة علاقة و طيدة، لأنّ السياسة هي فن الحكم و يحتاج من يتعاطاها أن يكون ذكياً في معاملته مع الآخرين، و في السخرية أيضاً يجب علي من يكتبها أن يتمتع بذكاء و لباقة –كما بيننّا –لكي يستطيع الربط المطلوب و الموجود،و بين الظاهر والمستور.
و من ناحية أخرى- كما نعلم-انّ السخرية سلاح في أيدي المظلومين و المضطهدين و المغبونين لنقد الساسة و كشف عيوبهم، و قد تكون سلاحاً في أيدي الطبقة الحكامة لينصحوا أو يشيروا ساخرين للوصل إلي الحقيقة.
وهكذا نعرف أن السخرية متصلة بالسياسة منذ القدم حتي يومنا هذا، و لدينا لون خاص من الأدب الساخر يُعرف بالسخرية السياسية. واستهوي الكثير من الشعراء منذ القديم حتي يومنا هذا و خاصة في هذه الأيام أصبح هذا اللون من السخرية أكلةً يوميّة يستعذبونها ويتداولونها، حتي نجد الشاعر يكتب دوواين من الشعر في هذا المجال، و كما يقول الشاعر:
قُلْتُ يا هندُ دَعيني وَ اجري
يَغَــلِبُ الــلائِذ بـــالصَبرِ ابتئاسَهْ
إنّما يا هندُ دَعيـــني وَ اجري
تمـلِكُ الــرأسَ مَـــعَ ربِّ الرئاسه
قَدْ دَعَـانــا للهـوي نــاظـِرُها
فــاستـجَبَنَا بــانقيــادٍ وَحمــاسَه
فأجـابتني و مـا تـُـدْعَي التي
قَدْ سَباكم حُسْنُها ؟قلت السياسة»
وغيرها من القصائد كقصيدة الديك لنزار قباني وقمم لمظفر النواب والحظيرة لأحمد مطر.
وشاعرنا الحريزي تميز باسلوب ساخر ناقد متميز متشبع بالصور الايحائية والرمزية والادوات الاسلوبية البلاغية من ناحية أخرى.
وشملت مواضيعه الساخرة السياسة والمجتمع على حد سواء.
حتى يصل في بعض الاحيان الى المباشرة والاستفزاز اهادف المقصود ليرد على الاستفزاز بالقوة نفسها وبحدتها.
كما يعبر أحد النقاد:
, لتكون بمستوى مواجهة الواقع المزري والمرير, بمستوى الفعل الهجومي , الذي ينهش في سهامه الحارقة , لذا فأن لغته الشعرية تنحت في الابتكار المعاني المفردات في شكلها الجديد , التي يعطيها قوة عميقة في الرؤية والرؤى التعبيرية الدالة في المغزى البليغ , لذلك مارس صنعة الابتكار في خلق المفردات الدالة والعميقة , لواقع لا يعترف بالتهاون والمسالمة , وانما كل جبروته يجند طاقاته بالهجوم الوحشي على الواقع , بغية التسلط والاستحواذ والامتلاك , ليكون الانسان لعبة ودمية في يديه يمشي على اربع ارجل , او يحوله الى خرفان مطيعة وذليلة , هذه الصيغة الاستغلالية الظالمة التي تجعل من الانسان خروف اعمى , وعيون حارسة لامارة الاميرالسلطان القاهر الاوحد والجبار , ورعيته تكون دروع بشرية للمحافظة ولاية الامير . بأن يبقى صولجان السلطة في يد الامير الثور , والوزير الحمار , وعسسهم الكلاب والقرود والعجول العاقرة .
ففي قوله:
أنا شاهد عليها
تحت ظلال رماح القصب الصفراء
ضفادع لها فحيح , تزدرد الافاعي
أنا شاهد عليها
خراف عمياء تحرس الراعي
نرى الامتزاج بين الرمح الذي هو رمز الحرب والماء والموت والقصب الذي هو صورة ريفية واضحة لرمزية الرمح بأيحاءاته الغيبة المتجلية بالغموض تارة والوضوح، وصحيح ان القصب أصفر لكن رمزية اللون تشير الى المرض والتعب واسحوب الروحي والنفسي للمجتمع بسبب ما فعله السادة والقادة والأمراء عبر العصور.
ثم ينتقل الشاعر من الصورة التمثالية الى الصورة الصوتية من فحيح الضفادع الى ازدراد الأفاعي، ونلاحظ هنا ان الصورة الصوتية مرتبة بالصورة التمثالية السابقة، فالافاعي أيضا صفراء في أغلب الاحيان وسمها هو يسبب المرض واصفرار البشرة والموت في النهاية.
ويبقى صوت الخراف هو الأقوى في هذه المقطوعة، لأنه ضعيف لكنه شائع طول مديات عصور الظلم والكبت والحرمان، ووظيفتها حراسة الراعي، وتذكرنا هذ الصورة بصورة الدجاج الذي يلبي طموحات الوالي (الديك) بكل متطلباته في قصيدة الديك لنزار، وصورة الثور والحظيرة عند أحمد مطر.
تتمثل وتتشكل هذه الصورة لخلق أيقاع مسرحي شجي ممتليء بالكوميديا المظلمة أو السوداء فلا تعلم أتضحك أم تبكي على واقع الشعوب المزري؟!!!
غجرية ثملى
تنشد لحن ( الهجع )
من فوق مئذنة الحي
المزينة بالدولارات النفطية
في هذا المقطع نرى العديد من الصور والمشاهد المتداخلة فيما بينها، فالغجرية أصبحت هي من تؤذن في الجوامع فوق مآذن الحي، لتعبر عن ضياع المقياس للتمييز بين الصالح والطالح وغياب الوعي وغرق المجتمع بعالم الفوضى واللاوعي في عصر العولمة حيث لا تستطيع تمييز امام الجامع من الراقص على جراح الموتى!!
ونرى صورة الدولارات التي ترز الى ضمير العولمة الأقتصادي الذي يذبح اشعوب بأسم رأس المال والحروب الاقتصادية والنفطية، دون أن تأبه بشيء من الرحمة لانحراف الفتيات في عصر لا يهمه الا المال والشهرة والسلطة، وهذه الغجرية ليست غجرية بالمعنى الظاهر، ما هي ألا فتاة من الشعب مسكينه سلكت طريق الظلام لتحقيق عيش بائس ينقذها من الموت.
والمآذن الخضراء التي كان من المفترض أن توشح بالآجر الأخضر تحولت الى غلاف أخضر من الدولارات الخضراء، والخضار والصفاء في المقطوعة السابقة يمثل صراع الواق بين الشعب المريض الاصفر والسياسة الغنية الخضراء بالأموال والخضار العافية والرفاه.
وفي مقطعنا الأخير في هذه الدراسة:
في قاعات الدرس
تعلمنا فن الخطابة أخرس
ومتسول أعمى
يعلمنا فن ادخار الفلس
وشيخ الحي
يعلمنا فنون المنكر والرجس
كأننا امام عولمة الجنون
تتضح صورة العولمة بشكل جلي وواضح مليء بالتناقضات، فالاعمي هو من يقود الطريق، والبائس من يعلمنا فن الاقتصاد، وشيخ الحي صار وكرا لاعمال الخبائث... أي ضاع الحابل بالنابل والهرج والمرج، في دولة العولمة لتي يرعاها بعض المتسولين باسم الدين والصلاة والعبادات...
وقافية السين تشير الى السكون والسكوت والصمت، فلا أحد يردع كل هؤلاء سراق الوطن والدين والحقوق.. وايقاع الرجس يضمر ايقاع القدس والقدسية الضائعة بسبب البؤس والتشرد والتسول الاجتماعي الكبير.
بواسطة حميد الحريزي -العراق