نبذة مختصرة عن شعر النقاد وصولا إلى حاتم الصكر
د.صبري حمادي - كاتب وأكاديمي عراقي
في مرحلة ما قبل الإسلام تصلنا أصداء حكايات عن سوق عكاظ وكيف عرضت الخنساء شعرها على النابغة الذبياني حين فضل شعر الأعشى على حسان بن ثابت فاعترض حسان واستشهد ببيته الشعري:
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى
وأسيافنا يقطرن من نجدةٍ دما
وهنا تحولت الخنساء إلى ناقدة إذ وجدت ثمانية مواضع ضعيفة، فالجفنات جمع قلة والأفضل جفان جمع كثرة، الغر بياض محدود بالجبهة، والبيض أفضل من الغر، يلمعن الأفضل يبرقن بالضحى بالدجى أفضل ............الخ
إذن لم يكن هناك ناقد متخصص بل الشعراء هم الذين يأخذون دور الناقد بالمعنى التقليدي للناقد.
الفرضية التي تطرح هنا هي أن الناقد وفقا لهذه الرؤية للنقد يميز الشعر الجيد من سواه، وهو يستطيع أن يميز شعره هو بحيث يحكم على جودته ويتبناه أو أن يهمله لأنه لا يستحق النشر. وحتى وفقا للرؤية المعاصرة للناقد وهي أن الناقد قادر على أن يبدع نصا نقديا بمستوى إبداع الشاعر يظهر فيه مكنونات النص الشعري والمسكوت عنه كما في المصطلح الشائع، فالناقد إذن يستطيع في ذائقته الفنية أن يميز نصه الإبداعي، وهل هو جدير بالبقاء او النشر؟ ولكن ليس في كل الاحوال.
وحين سئل المفضل الضبي لِمَ لا تقول الشعر وأنت أعلم الناس به؟ فأجابه شعرا:
وقد يعرض الشعر البكيء لسانه
وتعيي القوافي المرءُ وهو لبيبُ
ولابد أن أذكر هنا أن أستاذي عبد الجبار المطلبي ألف كتابا مهما عنوانه الشعراء نقادا، وكتب زميلي الدكتور علي حداد رسالة دكتوراه عنوانها الشعراء نقادا وكنت أنا أحد مناقشيها حين كنت أستاذا في جامعة الموصل.
كما ألف الدكتور عبد الله الفيفي كتابا بعنوان (شعر النقاد) وهو أقرب إلى ما نحن فيه الآن. كتبت عنه مقالا نشرته في موقع على جوجل اسمه ديوان العرب، وهو تحت عنوان: هل يمكن للناقد أن يكون شاعرا؟
وردت أفكار عن شعر النقاد في كتاب الفيفي منها: أن النقاد حينما يكتبون القصائد فأنهم يكتبون قصائد طويلة لأنهم لا ينقصهم الألفاظ ولا المعاني وليس بالضرورة أن هذا صحيح تماما، وقد أشار الفيفي إلى ذلك، ورأي آخر عن أن التناص الكثير في شعر النقاد حين يلجأ إليه الناقد يضعف قيمة النص الشعري، لأنه يعرف جيدا قيمة النص الذي يتكئ عليه.
ومن البديهي أن أقول أن الشاعر يحلق في أجواء هي غير أجواء الناقد الدؤوب الذي يحتاج إلى استيعاب النصوص والتعمق بها، وأسس الإلهام الشعري ومزاجه وحالاته هي تماما مختلفة عن أسس الإبداع النقدي إذ ربما يكتب الشاعر وهو يبكي من هول ما أصابه من غدر الزمن أو سماع موسيقى حزينة تحتضن ابداعه الشعري وتلهمه ألفاظا وعبارات تتلاءم مع تجربته الشعرية وعكس هذا تماما حين يريد أن يعبر عن تجربة سعيدة مر بها .
نعود إلى شاعرنا حاتم الصكر الصديق منذ أكثر من أربعين عاما، فنقول بأن نصوصه في الهبوط إلى برج القوس تؤرخ ليس فقط لهموم حاتم الصكر فقط بل هي تؤرخ لهمومنا جميعا.
اخترت لكم قصيدة "احتراق" كي أقرأها وهي مهداة إلى أصدقاء سوق الكتب في بغداد شارع المتنبي
وراء بلاط الرصيف
شممتُ احتراق الورق
تناثر فوق الوجوه
رأيتُ العصورَ تجمّد فيها المدار
ودارت على الموتِ
حتى استدار
رؤوساً من النار تعلو
وتعلو
وتهبط فوق السقوفْ
يبل صداها المطر
قرأت على صفحة الجمرِ
جرحَ الحروفِ
ودمعَ الحروفْ
قرأتُ بجوف الرماد جنوني
ومن الواضح هنا أن المسكوت عنه هو أن مانكتبه وما كتبه أسلافنا سيمسي رمادا.
وبالمناسبة أحيانا أحس أن نصه النقدي يصاغ صياغة شعرية بمعنى أنه يحتضن صورا شعرية وأنفاسا وأجواء وحميمية تنتسب للشعر.