جدلية الوعي النقدي باللاوعي الشعري في ديوان " الهبوط إلى برج القوس" للشاعر حاتم الصكر
د. سعد محمد التميمي -كاتب وأكاديمي عراقي
في الديوان الأخير للشاعر حاتم الصكر يتداخل الخطاب الشعري بالخطاب النقدي في جمل شعرية ذات مرجعية معرفية ، ليبدع في الشعر كما هو مبدع في النقد ، واذا كان التميز والغزارة والتنوع الذي عرف به منجزه النقدي قد قرنه بالنقد ،فان ذلك لا يلغي بقاءه شاعرا متميزا في دواوينه(مرافئ المدن البعيدة ـ1975م)و(طرقات بين الطفولة والبحرـ 1980م) (ملاذ أخير1994 ) و( الهبوط إلى برج القوس 2020) وهنا نسأل هل أزاح الخطاب النقدي بتميزه وحضوره العربي الخطاب الشعر لعل بقاءه قريبا من مرافئ الشعر جعله يتفرغ لنقد الخطاب الشعري دون غيره، رغم من امتلاكه المعرفة و القدرة على تفكيك شفرات النص الأدبي أيا كان جنسه ، فروح الشاعر العاشقة للشعر والعارفة بمقولاته وارهاصاته وتجلياته ومغامراته وتحولاته قبلت بالانقياد لعقل الناقد بما يكتنزه من معرفة واعية بالمناهج المختلفة وتفاعل مع حركات الحداثة التي طالت الشعر والنقد معا ،ومن ملامح حضور اللاوعي الشعري في خطابه النقدي، اللغة التي يستعملها الصكر في تحليله للنصوص التي تتسم بالشعرية بما تقوم عليه من مجازات وانزياحات ،وقد تجلى ذلك بشكل واضح في العنونة التي شغلت جانبا من اهتمامه منطلقة من رؤية شعرية تقوم على المفارقة والانزياح والاحالة والرمز أحيانا فلم تكن العنوانات تقليدية ومن ذلك(الأصابع في موقد الشعر مقدمات مقترحة لقراءة القصيدة ، مواجهات الصوت القادم، دراسات في شعر السبعينيات ،البئر والعسل قراءات معاصرة في نصوص تراثية ، الثمرة المحرمة... مقدمات نظرية وتطبيقات في قراءة قصيدة النثر ، الجرم والمجرة حول التحديث في الشعر الأردني المعاصر) اذ تنطلق من جدلية اللاوعي الشعري الذي ينتج العنوان الأول ، والوعي النقدي الذي يقوم على القصدية ايمانا منه بضرورة تفكيك شفراته ، لذلك جاء العنوان الفرعي للتوضيح والتفسير ،ويتكرر ذلك في ديوانه الأخير اذ يضيف للعنوان الرئيس توضيحا يفكك الى حد ما رمزية العنوان الأول بقوله(جنايات من الزمن الشعري ) ويتجلى تداخل النقد بالشعر في ديوانه الأخير(الهبوط إلى برج القوس) من خلال المقولات الفلسفية و الشعرية والنثرية التي قدم بها الديوان وختمه به اذ تضمنت ما يقارب (45) نصا لشعراء وكتاب وفلاسفة ونقاد ، ليعكس هذا حضور الوعي النقدي الذي يوجه أحيانا لا وعي الشاعر نحو فضاءات ومعانٍ خاصة ،وهذا صرح به الصكر في تقديم هذه الاختيارات بقوله (بألسنةٍ أخرى وبقلب شاعر:مختارات)فالاختيار جاء بوعي الناقد ،لا وعي الشاعر لتتماهى هذه الاختيارات فيما تطرحه من تساؤلات في الوجود والخلاص والتحدي، مع هموم الشاعر وموضوعات ديوانه ،وتحضر هذه الاختيارات بشكل آخر من خلال قصيدة (أسماء وأفعال) اذ يتخذ من أسماء بعض الشعراء عنوانات فرعية(المتنبي ، رامبو، السياب، أدونيس ، المقالح ،) لذلك جاء الديوان بجزأين الأول قصائد الشاعر وهي (28) موزون ونثر تعكس تجربة شعرية غنية اسهم الوعي النقدي بتشذيب النصوص من الزيادات والترهلات التي طالما نجدها في قصائد للعديد من الشعراء، ويأتي عنوان الديوان الذي هو عنوان لأحدى قصائد الديوان ليحيل الى ميلاد الشاعر لذا جاءت القصيدة لتسرد جانب من سيرته:
صباحا طلعت
متشبثا بمشيمة فلاحة
هبطت بها من بغداد
الباصات الخشبية
وقحط المزارع والجراد
على حد عام يحتضر
كما لو كنت انتظر صمت المدافع
وانتصاف القرن واكتمال الأولاد الخمسة
قبل أن يصبحوا درزينة فقراء
واذا كان عنوان المجوعة يوثق الولادة والعودة لنقطة البداية فان الصكر قد وثق للموت كثيرا، فالمراثي التي عاد فيها الى الغرض احتلت حيزا كبيرا من الديوان، اذ يؤرخه بالخروج من برج القوس في البيان الختامي الذي هيمن عليه الوعي النقدي في مواجهة أسئلة وجودية في الهدف من رحلة الحياة وملامح المحطة الأخيرة ، ليؤكد أن القصيدة عنده تنحو صوب التميز والتفرد وان النثر يضيء الروح و دهاليز الوعي ويعقد صلة بين احتراقات الداخل وتمثيلات الخارج بين الشعر والقصيدة بين الولادة والموت لتولد القصائد بلا تسميات في ظلال اسوار برج القوس الذي يتراءى مكسورا ، وقد جاءت قصاد هذا الديوان التي يطلق عليها الصكر جنايات لتؤرخ لزمن مر به الشاعر ولم يتوقف فمثل هذه الجنايات مستمرة وان كانت على فترات.