recent
أخبار ساخنة

أبنية الايجاز في قصيدة الومضة/ د. سلمان گاصد


أبنية الايجاز في قصيدة الومضة
 
د. سلمان گاصد
 
الايجاز في أي نص أدبي ليس معياراً لتصنيفه اجناسياً , إذ عرفت أهمية النصوص الأدبية بمقدار ما توحي من رؤى وأفكار تمنح المتلقي بُعداً جمالياً في تذوق ما يريد النص قوله موجزاً كان أم مسهباً.
الايجاز في اللغة يعني (( تقليل الكلام واختصاره لكي يؤدي المعنى الأكبر والابعد المراد توصيله )). وهو أداء المقصود مقابل الاطناب والاسهاب , ولكن هل فعلاً ان البلاغة إيجاز ؟ وانها تتجلى في ( الصمت ) كما يقول العرب , بعكس ما تقول اليونان ( سقراط ) " تكلم حتى أراك " , وما يجمع بين المتضادين الصمت والكلام أنه قيل لأحد علماء العربية , أتعرف الرجل , قال :- نعم . أعرفه من قفاه , فسئل , وأذا رأيته من وجهه : قال " إنه كتاب مفتوح " , وكأنه يقول القفا صمت والوجه قول في كتاب.
لقد حدد الايجاز باثنين: الايجاز بالقِصَر والايجاز بالحذف , وكلا هذين الوجهين يتعلق بالمبنى اللغوي , وربما نقول نحن في ايجاز ثالث يكمل هذين الاثنين معاً وهو الايجاز باللمحة أوالومضة أو الشذرة أو اليراعة وهو ما يمكن ان نطلق عليه " الايجاز الغرائبي ".
نقصد بالأيجاز الغرائبي ارتحال الصورة من معناها المتداول اللساني الى المعنى اللامتوقع كما تنتقل الالفاظ من معناها اللغوي المرجعي الى معناها الكلامي ( التداولي بحسب دي سوسير في كتابه " علم اللغة العام" ).
الايجاز الغرائبي شكل ثالث يتعلق بالتصوير وبالمعاني وبذلك يمنح المتلقي رؤى تخيلية ابعد من تخيل الفكر , ما دام أي نص ابداعي ولنفترضه نصاً شعرياً يكون ذا بعدين إما ان يعامل على أنه يثير الفكر أو على أنه يثير التخييل والتصوير.
ولكن لنسأل: هل ينتفي دور الشكل بوصفه علامة عند تحديد النوع الأدبي؟ , وهل يصبح المعنى هو المعيار الذي يشتغل عليه المبدع والمتلقي في تصنيف النوع الأدبي ؟ وهل الكثافة عندما تصبح كتلة لا وجه لها إلا من منطق اللمحة أو الشذرة وهي منطق الأشياء في عالم النوع الأدبي؟ ذلك ما سنجيب عنه في هذه الورقة.
الحقيقة هي رؤية مكثفة مثل بؤرة تشع جسيمات في الضوء وموجات من الصعب فصلها بالتشبيه العلمي. وهذا الامر العقلي ينطبق تماماً على القصيدة المكثفة حتى لو كانت بيتاً واحداً يمتلك حدوده وبذلك يعامل معاملة القصيدة عندها نسأل:-
هل هناك شعرية أم لا في هذا الجزء الذي يقابله كلُ قد لا يمتلك شعريته وكأننا نختصر كل ذلك بالقول بالشعرية وهي الخصائص التي تجعل النص يمتلك أدبية.
لنأخذ نصوصاً بوصفها قصيدة ومضة.
     
    لثلاث ليالٍ والسماء تمطر
    حتى كاد وجه البحر أن يتبلل

ونسأل ما الذي جعل هذا النص يمتلك شعريته ليجنس على أنه قصيدة ومضة فنجيب ؛ان تحول المتداول اللساني من معناه الواقعي / العادي / اليومي الى ما هو غرائبي هو الذي جعل النص يمتلك ازاحته بمفهوم ( جان كوهن ) اذ تحدث الازاحة لا بالزيادة أو النقصان بل بالتركيب الغرائبي للمعنى فبدلاً من تعدد القول:

• يتبلل الماء بالماء ( هنا تحولت الصورة الى تجريد لا معنى له ).
أو
• أمطرت السماء فتبلل وجه البحر ( هنا تحولت 

الصورة الى استعارة غير موظفة شعرياً ).
كان النص الادونيسي يحمل ما هو أبعد تخيلياً في لفظة " كاد" التي يضطرب عندها التصور بين الحقيقة والخيال.
اذاً التحول مما هو واقعي الى غرائبي يشير الى ان الواقعي يمتلك غرائبيتهعندما يوضع في نسق غرائبي.
ومثل ذلك في قصيدة ادونيس ايضاً.
        
  قل قصيدةً وأمضِ
     زد سعة الأرضِ

هنا نجد نصاً مختلفاً حيث يحيلنا الى رؤية فكرية ولنقل " فكر " أكثر مما يحيلني الى التخيلي والغرائبي , وللمقارنة نجد ان سطره الأول بواقعيته يقابل:-
        لثلاث ليالٍ والسماء تمطر
بينما نجد في سطره الثاني الرؤية الفكرية عندما تتعالق مع معنى المضي لزيادة سعة الأرض أي أن القصيدة الومضة تعلقت جميعها بــ " زد " بوصفها المركز المشع الذي يمنح النص شعريته اذ ان رفعه لن يصبح للنص معنى.
أدونيس هنا أقرب الى الفكر من قوة الاستعارة , حيث الومضة لم تكن مفاجأة بما في القصيدة الأولى " لثلاث ليال " نجد هنا ان الشاعر صمم الومضة على أساس التجريد " سعة الأرض " التي تمنح المتلقي بعداً تأويلياً يوازي سعة الأرض.
يمكن تلخيص بناء قصيدة الومضة بمعادلة بسيطة وهي :
الأنتقاء " لغة " ثم ....... التركيب " سياقاً ".
وبذلك نستنتج ان الخواتيم في العبارة الشعرية هي موطن الومضة ومن النادر أن نجد ومضة في المقدمات والاستهلالات وهنا يمكن توضيح موطن الغرائبية في نص قصيدة الومضة بالشكل التالي:
1- عادي ..........غرابة ................ ومضة تخيلية.
                       "استعارة"
2- عادي ........ لا وجود للاستعارة .... ومضة فكرية.
3- ويعني هذا ان كل شيء قابل أن يكون شعراً عندما نعمد الى الغرائبية.

بصحبة شرطي مقيد اليدين
أومأ لي :
لقاؤنا في الحانة القديمة

وتتحقق هنا الغرائبية في "أومأ لي" في اليدين وهي ما لاتنطبق تماماً على وضع الموصوف " مقيد اليدين " وبذلك كانت الشعرية بالمفارقة والتضاد. ألا إنها تزاح الى الرأس.
أعتقد أن الانفعال هو الجزء الأهم في قصيدة الومضة كما أن كسر افق توقع المتلقي يزيد الواقع غرابة أذ يحول هذا التوقع الفكرة الى ومضة.
ومضة : - السهام بلا طابع بريد
                    و .... متصل
ومضة : - بائع الفرارات يدور في الازقة والحارات
                    وفراراته تدور في الهواء
هل نقول إن القصيدة الومضة قد الغت الثرثرة عندما تستدق القصيدة وتصبح سهماً حيث نلحظ أن الايجاز هنا ليس في الشكل ولا في الموضوعة بل في المفارقة والتضاد بين مقدمة القصيدة وخاتمتها الأقصر بمعنى " الإيحاء " حتى أن أي زيادة مقطعية تبدو مرهقة للمحة التي تحفل بها الومضة وهي بهذا المعنى لا تستطيع هذه الومضة أن ترفع معها سوى جسدها الطري اذ لا تحتمل ثقلاً مضافا يؤتى به وبهذا يبتعد عن الاستطراد.
في قصيدة : السهام بلا طابع بريد ....... و ....... تصل

معكوس الاستشهادات الأخرى التي اوردناها تماماً. اذ الاستهلال بالسهم والخاتمة بــ تصل ، لا شعرية فيها ولكن حين نزرق بحسب اوست وارين ورينيه ويلك في " نظرية الادب " ما يوحي بالاختلاف وهو هنا " بلا طابع بريد " ينتقل المعنى من التداولي الى الغرائبي.
 
في القصيدة الثانية نجد المشابهة بين بائع الفرارات وفراراته وكلاهما يدور باختلاف الغاية في تقابل دلالي يعني اللاجدوى وهذا ما يمكن ان نسميه بالتشبيه المركب الذي يحمل فكراً أكثر مما هو تخيلي / غرائبي وهذه سمة من سمات التشبيه لا الاستعارة.
هنا لابد أذاً أن نطلق على قصيدة الومضة بقصيدة المفارقة ، حتى لو كان مبعثها الفكر ، كون المفارقة روح الحياة كما أن المفارقة هي اللقطة التي تحتوي على الومضة والتي تفسر الغموض.
أنظر تلك الموجة
إنها دمعة النهر
 
وكما هو حال بناء القصيدة الومضة تبقى الاستهلالات " انظر تلك الموجة " تحمل عاديتها بينما يتجلى الوهج في خواتيمها " دمعة النهر " في التشبيه البليغ الذي يحمل استعاريته كي تتحقق ومضة الشاعر.
واسأل ما هي الحدود بين قصيدة الومضة وقصيدة الهايكو؟ وهل قصيدة الومضة تعدُ بناء مصغرا لقصيدة الهايكو؟ أقول في الهايكو (الخواتيم لا تتعلق بالمقدمات) وفي قصيدة الومضة ( المقدمات تأخذ برقاب الخواتيم ).

وسط الباعة يجلس 
أمامه ورقة خريف صفراء على الأرض 
ظننته بائعا 

ما الاختلاف بين هذا النص والنص الأسبق منه " أنظر تلك الموجة ". يبدو ضئيلاً بالرغم من أننا نصنف النص الأول بوصفه قصيدة ومضة بينما نرى في الثاني " رجل يجلس " قصيدة هايكو.
وكلتا القصيدتين تحمل غرابة " هناك البكاء , وهنا الذبول والرجل هنا ليس بائعا والمشابهة هنا بؤرة يتجمع عندها المعنى والتركيب.
ومن جانب آخر يتجلى الاختلاف واضحاً حينما نقرأ لــ " كيكاكو " تلميذ " باشو ": .

اقتلع زوجاً من أجنحة يعسوب
وستحصل على قرن فلفل

وتعديل " باشو " الشاعر الأستاذ: 

أضف زوجاً من الاجنحة 
الى قرن فلفل وستحصل على يعسوب 

, بدلاً من " أقتلع ".

وكأننا نجد في النص الأول " الموت " بينما نجد في النص الثاني " الحياة " بدلالة اقتلع و " أضف " وكلتا القصيدتين من الهايكو أي بناء هايكو على هايكو.
أين نجد المعيار الذي يستحق أن يقال عنه إنه مركز القصيدة , أقول يمكن أن نجده في ثنائية الثابت / المتحول.
الثابت هنا / زوج – والمتحول هنا ( أقتلع , أضف ).
وتبدو أجنحة اليعسوب في أستهلال نص " كيكاكو " قد اقتلعت من في استهلال النص الأول وأجنحة اليعسوب نفسها قد أضيفت لقرن الفلفل في خاتمة النص الثاني " باشو ".
اذ نلحظ أن هذا البناء أعتمد على عنصري التقديم والتأخير في تشكيل القصيدة حيث التقديم شكل قصيدة " كيكاكو " والتأخير شكل قصيدة " باشو " وبذلك نجح الأخير وفق منطق الحياة وفشل الأول وفق منطق الموت , ولأن الشعر أسلوب حياة.. .. كان باشو هو الاروع.
ومن هنا نقول أن الومضة أو الهايكو يعتمدان التركيب اولاً سواء طال أم قصر النص فالشاعر يركب العالم لا يفككه وهو بذلك يفتح القصيدة على التأويل بالمدى الاوسع.
وكأننا نقول إن الهايكو هي قصيدة الواقع بينما بدت قصيدة الومضة مجازاً في صورة مركبة اذ التركيب في قصيدة الومضة هو الذي يثير الادهاش.
مسافر دونما حراك
يا شمس من اين لي خطاك؟
فما بين انعدام الحركة في السطر الأول والخطوات السريعة في السطر الثاني تولدت المفارقة ولكن بطريقة التساؤل الذي ظل في فضائه الاثير في ختام القصيدة الومضة كونه مكاناً يمر عليه المتلقي في آخر لحظة من قراءة القصيدة وعليه لابد أن يكون فيه اللمحة أو الشذرة.
google-playkhamsatmostaqltradent