* رِحالُ الكَلِماتِ!*
صدحت مآذننا:
"صَلُّوا فِي رِحالِكُمْ ". فمن أينَ أتَونا بها!
وهنا أُلقي بحضرة أهل الصنعةِ في الضادِ بِمَعاذيرٍ جليّة, فلارصيدَ لي من خزائنِ الضّادِ وبيانِها إلّا مِنهاجَ دِراسةٍ ثانويةٍ, صَفَفتُ به حروفي هذه بِرَويةٍ, مُستَنِدٌ على هيامٍ بالضادِ وشجونٍ زكية, ومُعتَمِدٌ على صيامِ عن اللغو وفِطرَةٍ سويةٍ. ومُستَظِلٌ بذريعةِ أنَّ إبنَ جنّي ما تخرّجَ من (سوربونٍ) بهية, ولا الزّجّاجَ يمم وجهَهُ شطرَ أكسفورد العلية, فإن زللتُ فأخطأتُ ففي جهالتي أنعمُ نعمةً دونية , وإن أصبتُ فيالهولِ الخطبِ في أمَّةٍ عربية, كدت أن أراها في هدى الأبحاثِ مُتَجَهِّمَة, وفي صدى الأحداثِ مُتَنَغِّمَة, وفي ردى الآثاث مُتَنَعِّمَة. لندَعَ الضاد يدلي بشَهادتِه أولاً, دونَ أن نَضطرَّه لقسمٍ على منصةِ الألسن غليظ في شهادةٍ منه أليمةٍ متألِّمة:
[ أشهدُ أنَّ أصلَ مفردةِ "رِحال": رحَلَ ,يَرحَل، رَحيلاً وتَرْحالاً ورِحْلَةً، فهو راحِل، والمفعول مَرحول عنهُ, ورَحَلَ عَنْ بَلَدِهِ : تَرَكَهُ, ورِحال مصدرُ رحَلَ: أمتعة المسافر وكلّ شيء يُعَدُّ للسفرِ, والرَّحْلُ: كلُّ شيء يُعَدُّ للرحيلِ من وعاءٍ للمتاعِ وغيرِهِ, ومايُوضَعُ على ظهرِ الدّوابّ من حَمْلٍ أو ركوب]. إنتهى.
ولْنقتربْ لنبصرَ الحديثَ الشّريفَ وقد جاءَ بها مُحَصلةً على فَهمٍ إذ قالَ: "لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ", وأنّهُ صلى اللهُ عليهِ وسلّمَ قالَ:" إِذَا قُلْتَ : أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، فَلَا تَقُلْ : حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ ، قُلْ : صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ ". (فِي بُيُوتِكُمْ ).
ثمَّ إنَّ الذّكرِ الحكيمِ قد جاءَ بها مُفَصلةً على عِلمٍ إذ قالَ: {جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ}, وقالَ في السَكنِ القرارِ : "وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ ". ربُّنا ما جَعَلَ لَنا مِّن (رِحالِنا) سَكَنًا, فالرِحالُ ليسَ بسكنٍ آمنٍ مطمئنٍ مكين.
إذاً أنّى لنا أن نأتِ ب"الرِحالِ" على أنَّها سَكَنٌ ومستقَرٌّ, أو بيتٌ, أو دارٌ, أو منزلٌ, أو مَقطَنٌ, أو مثوىً, أو مأوىً, أو مُقامٌ, أو حتى مَقامٌ, أو موضعٌ, أو موطئٌ, أو ملجأٌ, أو مغاراتٌ, أو مُدَّخَلٌ, وكيف إنطلقت عبارةُ "صلُّوا في رحالكم" في أمّةٍ عربيةِ اللسانِ من المحيطِ الى الخليجِ طولها!
ربما أنّ مَن أطلَقَها, قد إرتكز على نداءِ صلاةٍ أيام المطرِ عندَ بعضٍ من الأولينَ. من الذين طَغَت على أفئدتِهم وألسِنتِهم نظرةٌ على الدنيا على إنها رحلةٌ خاطفة, وعَلَت مفرداتُ لغةِ البداوةِ حُبَّاً بها ولها, وذلكَ -لعمري- أمرٌ يشبُهُ وَصفَ والدي -رحمه اللهُ- إذ ماإنفكَ يسمّي سيارتي (بغلاً), على المعنى الجَامعِ بينهما وهو: الركوب.
رُبَما أمرُ الوالدِ قد يُغَضُّ عنهُ الطّرف من باب " لاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا " لكنَّ أمرَ مُطلِقِ هذه العبارة الآن خطبٌ غيرُ مستساغٍ البتّة وأتحدَّثُ هنا من باب البيانِ حصراً. وأستشعرُ - لأنّي لستُ بمتخصصٍ- أنَّ الأفصحَ هو التقيّدُ بعبارة "صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ" فإنها لسحرِ البيانِ أقفى و أحفى, وأشفى وأدفى, وأصفى وأكفى وأوفى. قلتُ: "أستشعرُ", تحتَ ظلالِ أنَّ اللهَ ربّنا سبحانهُ وتعالى ماوَصَفَنا بأننا قوم نستوطنُ رِحالنا , بل مَنَّ علينا ببيوتٍ سكنٍ.
فمَن يا ذا عزّ الذي أطلقَها؟ رُبَما أنَّ مَن أطلقَها -إثر جائحةِ كورونا- هو شيخُ مسجدٍ طاعنٌ عُتيٌّ, وإذ هو متَّكئٌ على أريكتهِ في حجرةٍ ذي نورٍ خافتٍ, مُستقِرَّةٍ حذوَ محرابِ مسجدِهِ, وإذ هوَ يُقَلِّبُ بأناملٍ مرتَجِفَةٍ وريقاتٍ من المخابراتِ تسألُهُ بيانَ رأيهِ عن ميولِ عقائديةٍ و حزبية لفتيةٍ في الحيِّ ذوي شغبٍ وصخبٍ مَستترٍ غيرِ منظور , وإذ بعبارةِ"صَلُّوا فِي رِحالِكُمْ " الجاثمة- وتأبى إنسلاخاً- في شيبةٍ من شيبِ لحيتهِ قريباً من لسانهِ, ينطلِقُ بها لسانُهُ وهوَ مشتمِلٌ بتردداتِ غابرِ الزمانِ من منابرِ الأيامِ, ثمَّ ولتخوضَ مِن خلفهِ أمّةٌ متراميةُ أطرافُها بتمامِها معهُ في ذاتِ تردداتهِ وخوضهِ.
رُبَما شيخُنا لهُ في ذلكَ معاذيرُهُ, إن خرجَ علينا بتصريحٍ خفيفِ الظلَّ, يحمِلُ شذا التقوى على كفيهِ, وشدا الزهدِ موسومٌ على مُقلتَيهِ : (أيَّ بُنيَّ:" (إِنَّمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ)" , فما دنياك إلّا قافلةً وما دارُكَ فيها إلّا كرِحالٍ على ظهرِ ناقةٍ).
وَيْ! أوَتُطيقُ ناقةٌ ضامرٌ أن تَحمِلَ على ظهرِها "رِحالاً"خرسانيّاً (كونكريتيّاً) وغيرَ متحرّكٍ وبكهرُباء, وبملايينِ من جنيهاتِ كُلفَتُهُ , ما خلا سلفة مالية رِبَويّةٍ إستدنتها من بيتِ المالِ العقاري, فلماذا لم يتجَرَّأ منكم أحدٌ أن يقولَ بوجهِ الزعيم : "هذا يا زعيمنا المفدى حرامُ في بيتِ مالِ أمةٍ محقت الربا من إقتصادها ولا يجوز التعامل به" ! ماقلتموها ولن يتجرّأ منكم أحدٌ على قولها مادمتُ حياً وأنا بذلك زعيم.
و"صَلُّوا فِي رِحالِكُمْ" الكونكريتية, رحالٌ مجهزةٌ بشبكةِ (إنترنت) ضوئية.
وقُيِّدَت ضدَ مجهولٍ هذه القضية!
(والله أعلم).
بغداد - بقلم: علي الجنابي
