recent
أخبار ساخنة

مقابلة في جريدة الاتحاد للشاعر جبار الكواز حوار الدكتورعلي جاسم متعب

ليست كعادة المحاورين أريد أن أبدأ معك بسؤال يشغل المهتمين بالشعرية العراقية . ليس صعباً على من يتابع عطاءك الإبداعي أن يلقم على فكرة ظهور المشروع الشعري وتمثله لديك .
س/ لو وضعنا فكرة هذا المشروع أمام (جبّار الكوّاز) كيف ينظر إلى ما قدمه ؟ وكيف ينظر إلى ما قدمته النقدية من كشف حوله ؟ 
ج/ المشروع الشعري العراقي مشروع قائم على خلفية تأريخية تمتد عميقاً قي بنية الشعرية العربية من خلال تأثيرها المباشر فيه فلم يقتصر هذا المشروع على فتوحات الرواد الأوائل في بلورة بنية قصيدة التفعيلة إذ سبقته محاولات ولا أقول مشاريع أسهمت في استنهاضه بقوة التأثير والتداول فمن التجديد في بنية القصيدة الكلاسيكية (الدوبيت والموشح والمقامات والبند) إلى الفتح الأكبر في نصوص السياب ونازك وبقي هذا المشروع عرضة للاتهامات ومحاولات الحط من قيمته وتهميشه إلاّ أن إصرار الشعراء العراقيين متسّلحين بقوة الوعي في ضرورة التجديد أسهم كثيراً في بلورته بهذا البهاء فلا ننسى محاولات الستينيين والسبعينيين وصولاً إلى التسعينيين فمعطيات هذا المشروع منجزات فذة عراقياً وعربياً ، بالنسبة لي فلا أستطيع أن أبدي رأياً فيما قدمته في هذا المشروع لقد كنت دائماً في مسعى للتجديد منذ مجموعتي الأولى (سيدة الفجر) عام 1978 من خلال بنية الرؤيا الشعرية المستندة إلى رؤية معرفية وكانت نصوصي بعد الحرب العراقية الإيرانية ، مصدر إعجاب بما حملت من جرأة وشجاعة في طرح نماذج تجديدية عراقية بنصوص نشرت في الأقلام والطليعة الأدبية كــ (اشراقات والغابات العرجاء والمحطات وسنمار) ... وعشرات القصائد التي اندرجت في هذا الهم التجديدي من خلال زاوية صغيرة ضيقة بعيدة عن بغداد .
حاولت هذه الزاوية أن تقول إنني موجود فانتبهوا لما أكتب ولا أنسّى كلّ النصوص التي نشرتها في صحيفة الأديب الثقافي الغرّاء ولم تكن انجازات النقدية العراقية بأقل من عطاءات المبدعين الأدباء فقد خاضت في بحوث أكاديمية مميزة إلاّ أنها لم تستطع أن تحقق الأثر المرّجى في حركية هذا المنجز وبقيت حبيسة الأروقة الجامعية مع الأسف وكان لانشغال المشهد بظروف الحرب والحصار وما عاناه الشعب سبب كبير في خفوت الأثر المرتجى منها ومما يلاحظ على المشهد النقدي العراقي أنه ينقسم إلى مجموعتين في غير اختلاف فالمجموعة الأولى : وهم الباحثون الأكاديميون وعطاءاتهم في البحث والكتابة والإشراف على أطاريح نقدية حاولت أن تكشف بشكل علمي مدروس نماذج متقدمة من أفكار هذه النقدية وقدمت رؤى ممتازة إلاّ أنها بقيت أسيرة آلية أو تراتبية جمودة . أما المجموعة الثانية : فهم الباحثون الشباب الذين اطلعوا على المدارس النقدية الحديثة وحاولوا تطبيق آلياتها على النص العراقي وكانت ثمة عطاءات ممتازة في هذا أثمرت في بروز أسماء واعدة قادرة على إضافة رؤاها النقدية في المشهد التاريخي للنقدية العراقية وثمة ملاحظة تشترك بين المجموعتين أساسها أن أكثر الباحثين والنقاد كانوا أسيري التمسّك بآلية العمل النقدي في المنهج الذي يستثمرونه إلاّ أن ضجيج المصطلحات والاختلاف في حدّها الفني والنقدي أضاع على كثير من العاملين في المدرستين فرصة صناعة رأي نقدي بل منهج نقدي عراقي ينتمي إلى الثقافة العراقية والعربية مع الأسف .
س/ يقودني هذا إلى سؤال آخر ... هل ترى في النقد العراقي متابعة مؤهلة لمواكبة الشعر ؟ 
ج/ نعم في الرؤية العامة لابد من تأكيد ذلك أما في الخاصة فإن التأهيل النقدي في مواكبة الشعرية العراقية فيه كسل واضح فقد أتاح الانفتاح الإعلامي والثقافي والمعرفي بعد ربيع 2003 لمن هبّ ودبّ في أن يدعي لنفسه رتبة (ناقد) أو (باحث) دون تمتعه بخصال كتابية ومعرفية واسعة ليكون ناقداً حقيقياً فقد انتشر على صفحات الجرائد العراقية على كثرتها ما تسمى بدراسات تتعاضل في القول وتطرح أفكاراً غير مفهومة وإدعاءات فارغة بإلصاق أسماء النقاد والمفكرين العالميين في مدوناتهم ظناً منهم أنها تجيز لهم التمتع بصفة ورتبة (ناقد) أو (الباحث) . وساهمت كثرة المدارس النقدية في هذه الظاهرة المؤسفة فقد تقرأ خليطاً من اتجاهات نقدية ومزجاً من مدارس نقدية فيكون المقال النقدي أو البحث هجيناً لا ينتمي إلى أية مدرسة نقدية أو اتجاه فكري أو ثقافي ورغم أن اتحادنا الكبير ساهم في تشكيل رابطة لنقاد الأدب إلاّ أننا لاحظنا عزوفاً في المساهمة لكثير من الأسماء المهمة في العملية النقدية . ولمسنا صراعات شللية ومجاميع من النقاد تحاول أن تستأثر بقصب السبق في إدارته أو استثماره كنافذة للتعريف بالعاملين فيه وأنا أرى أن ابتعاد الأطر الجامعية عن العمل في هذه الرابطة ساهم بشكل كبير في التقييد من نشاطها فأنا أكرر دائماً لا حياة فكرية أو ثقافية ناجحة حين لا تشترك مع الجامعات في عملها ففي الجامعات العراقية من الكفاءات ما يشجع في تقدمه إلى المراتب الأولى عربياً .. وحين تحاول أن تحيط بالمشهد النقدي عراقياً من خلال رموزه تشعر بهذه الظاهرة المؤسفة فالنقاد الأكاديميين في خندق والآخرون في خندق مقابل ويتناسى الجميع أن الهمّ الحقيقي الذي يجب أن يسود هو تحقيق الأثر المطلوب في المشهد الإبداعي العراقي من خلال معطيات العملية النقدية ، نرى بحوثاً ودراسات نقدية وآراء جريئة تنشر ولكن تأثيرها المباشر لا يذكر بسبب من عزوف القرّاء وتنوّع مصادر الإعلام والنشر وبقيت دور النشر الأهلية والمنظمات الخاصة بهذه العملية مهمشة بسبب عدم قدرتها لوجستياً في بلورة المشهد النقدي الإبداعي العراقي من خلال طباعته وتوزيعه والتعريف به . 
س/ أكثر ما يشخص في شعرك – من وجهة نظري على الأقل – هو قراءة الواقع برؤية فكرية . هل ترى في ذلك قدرة على الإجابة على الواقع ؟ 
ج/ هذا الرأي أشرّه أكثر من دارس وناقد لنصوصي وهو مدعاة فخر لي فالنص الأدبي ليس لافتة في تظاهرة إعلامية أو سياسية أو عشائرية أو طائفية وإنما روح تكتشف الواقع وتطرح أسئلة تسهم في رؤيته بشكل جمالي .. أنا مسكون بتأسيس الواقع الثاني القائم على خرائب الواقع الأول ، هل يكتفي المبدع بتصوير الواقع المخرب كآلة تصوير فوتوغرافية ويعرضه على الناس والمتابعين فقط ؟ أعتقد أن في ذلك تقييد للرؤية الإبداعية في اتساع رقعة بصيرتها الواعية ، النصّ الشعري الذي يقرأ الواقع برؤية فكرية نصّ متقدم في عطائه فالشاعر والقاص والروائي ليسوا إصلاحيين يحاولون صراع الواقع إلى مواعظ وحكم وترديد لرؤى سلفية قائمة على الإيمان الثابت والتقديس الوهمي له .. لا يمكن شخصياً أن أعدّ نصّاً يبتعد عن رؤية فكرية شجاعة تحاول تثوير الواقع وبنائه وفقاً لكشوفات تسْهم أسئلة المبدعين في تحقيق صيرورة بنائها .. لا أعده منتمياً إلى عالم الشعر الجمالي الذي هو اكتشاف للواقع وإعادة بنائه وفقاً لرؤية ناضجة واعية شجاعة ومستقبلية .              
س/ بين (ورقة الحلة) و (من الضاحك في المرآة ؟!) ثمة وشائج على مستوى الرؤية والتقنية أيضاً . هل هما يمتدان ضمن تجربة واحدة ؟
ج/ (ورقة الحلة) صدرت طبعته الأولى 2003 و (من الضاحك في المرآة ؟!) صدرت طبعته الأولى 2016 ما بين المجموعتين ثلاث عشرة سنة عاش فيها العراقيون ظروفاً قاسية ليست على البال من أحلام وردية ظنوا أنها ستتحقق بعد شمولية ظالمة امتدت خمساً وثلاثين سنة إلى اضطهاد من نوع جديد وصراع طائفي وحرب هي إلى الأهلية أقرب بكثير من غيرها .. هذا الواقع الفجائعي الذي مرّ على العراقيين لا يمكن للشاعر أو الأديب أن يكون مزيفاً له وهو الذي عاشه بكل حواسه وكان يستشعر الخطر بالموت في كلّ خطوة يعيشها . إذن لابدّ من مستوى جديد من الرؤية وثقافة إبداعية تتناسب والواقع المحيط به في هذه الرؤية الفجائعية . كُتب نصوص المجموعتين (ورقة الحلة) نص طويل بـ 124 صفحة اعتمد مدينة (الحلة) وهي مسقط رأسي وموئل نشأتي المعرفية والإبداعية لم تعد تلك المدينة الحالمة التي كانت كعبة العراقيين في تنظيمها وجمالها ومدنيتها كما كانت ولهذا كان لابدّ لي من اشتغال آليات فنية وإبداعية تحاول أن تدين الواقع وتهجو مريديه وتكشف الخراب وتفضح الكذب الذي مورس ضد المدن العراقية قبل 2003 وبعده من هنا اتسمت المجموعة بآليات اشتغال تسعى إلى كشف المخبوء في تحت جلد أرضيتها وأشجارها وأسلافها وراهنها فكان أن اعتمدت جدلية (المتن والهامش) في كشف ذلك التناقض في رؤية الواقع واستثمار الفراغ والبياض في محاولة لمشاركة القارئ لاستكمال صورة الواقع المخرب واقتراح حلول لاستنهاض واقع جديد للمدينة ولمدن العراق كلها إضافة إلى الأخذ بالرموز المحلية التي ساهمت بعطاءات على مستوى الوطن ومحاولة تقويلها الفاجعة من خلال الظروف التي مرّت بها المدينة وبالرغم من إصداري مجموعتين بين (ورقة الحلة) و (من الضاحك في المرآة ؟!) إلاّ أن الوشائج بينهما وشائج متواصلة وكأنّما جسرٌ من الهمّ يربط بين الاثنين (ورقة الحلة) همّ المدينة وشعبها و (من الضاحك في المرآة ؟!) همّ الشاعر ورموزه التي عاشها والظلم الذي واجهه والظروف القاسية التي مرّت به .. لهذا فإن هذا السؤال الجميل الذي طرحته عليّ صديقي العزيز صار رقماً استثنائياً في تجربتي الشعرية على مستوى الرؤية الفنية والتقانات الشعرية التي ترْتمس أحدها بالأخرى فيشكلان ثيمة واحدة من الوعي الفني المدعم بوعي فكري ووطني ، فهما ينتميان إلى تجربة واحدة ولا ينتميان في آن واحد رغم أن من نصوص (من الضاحك في المرآة ؟!) ما كتبته في العام 2003 وما تلاه هذه التجربة التي اتخذت شقين رؤيويين تآخيا فنياً واقتحامياً لتقويل الواقع بجرأة وشجاعة نادرة وبفنية عالية أشاد بها كل من درس المجموعتين وللعلم فقد تمت ترجمتهما إلى أكثر من لغة عالمية بسبب من هذا الاشتغال الفني والفكري المهم في تعرية الواقع المخرب . 
س/ يشغلني في نصوص مهمة لك ذلك الرمز المخيل المتفرغ نص (سيد إبرة مثلاً) وغيره ، الشاغل أن الرمز يمتد ويتشعب لتكون له أذرعٌ في التاريخ وأخرى إلى الواقع واحدة في ذهن الشاعر وأخرى تتولد في ذهن القارئ لينسج صورها بعيداً عنك .
سؤالي : هل يمكننا أن نستوضح منك طبيعة تفكيرك بالرموز وكيفية توظيفها في البناء الكلي للنصّ ؟ 
ج/ الرمز كآلية اشتغال فني شعرياً ليس بالأمر الجديد في الشعرية العربية قديماً وحديثاً . واشتغالي الشعري الذي استثمرت فيه الرموز يختلف كثيراً عمن سبقني في ذلك فالرمز الذي أوظفه في نصّ ما لا يمثل شخصية تأريخية أو أسطورية أو اجتماعية في حدودها البايولوجية أو التأريخية وإنما أسعى لتشكيل رمز جديد متكون من مجموعة شظايا من الرموز المتقاربة له فــ (السيد إبرة) وهو من الرموز العامة في التداول الشعري لم يكن في تشكيله شعرياً انعكاساً لحالة شعورية وبايولوجية واحدة بل هو قد تشكّل في النص من مجموعة خواص طبيعية تقترب منه وتمثله في جزء منها كإبرة المدفع أو القناص أو الخياط أو المضمد أو القنباص .. أو هذه الخواص المتشظاة في الحيوات والأشياء تشكل القناع المؤسس لإبرة كسيد نعيشه في الواقع فهو قريب منا بل من أصدقائنا ولا يمكن لهذه الشخصية أن ينال حضوراً في الذائقة أو اهتمام الدارس ما لم يتشكل وفق ذلك فهو لبّى ميكانيك التجميع الشكلي روحياً المصبوبة في مفهوم الإبرة ليكون هذا الذي يتجول بين الكلمات وهو يصرخ في النجدة بعد أن ضيعه الناس في صندوق العدّة ، وتسري هذه الآلية على كثير من الرموز بل كلّ الرموز التي خضعت لهذه الآلية في نصّ سنمار هو ليس سنمار التاريخي والطغرائي كذلك والغابة ليست هي مجموعة الأشجار الخضر وصفي الدين الحلي المشهور بيته الشعري الذي بني على أساسه العلم العراقي ما عادت ألوانه تقود القارئ إلى كشوفاتها القومية ومكبوتات الحرب بل هي ألوان مستحدثة تقوده إلى مأساة الحاضر ومحنته التي نعيشها وما زلنا ، هكذا تم تخليق الرمز عندي تساهمياً من محاور مختلفة ومتضادة في الأمس واليوم والغد – واستميحك عذراً لأوضح مسألة في غاية الأهمية فلو تقصى باحثٌ ما رمزية الألوان في نصوص المجموعتين والمجاميع الأخرى لوجد أنها ألوان مفارقة لتداوليتها فلا أسود ولا أبيض ولا أحمر ولا أخضر ولك أن تعدد من الألوان ما تشاء فكل لون في مجمل خواصه أو انعكاساته النفسية أو التواصلية تأريخياً يمثل مفهوماً جديداً إنما هي ألوان لبست لبوساً جديدةً صنعها لها الواقع الفجائعي الذي نعيشهُ وتتبدى هذه الملاحظة على اللون كما تكلمنا والواقع ففيه لا الزوايا زوايا ولا الأموات أموات والواقع هو الواقع الذي نعيشه فيه رؤية مخالفة في صياغة مفارقات وجماليات صادمة تستنفذ المتتبع لتأويلها بما يراه من خلال مستواه الفكري أو الجمالي أو التواصلي .
س/ لا تنفرط الجملة الشعرية عن عالم نصها على الرغم البناء الاعتراضي والتفسيري والتفصيلي والمخططات التي تحيط بالنص مشكلة حواشي لكنها جزء من المتن وأيضاً النصوص والإحالات الخارجية التي تنبني وتنمو داخلها والموسيقى المتولدة عن هذه الانتقالات .
سؤالي : هل هذه قيم وتقانات فنية تتقصاها أنت جمالياً ؟ أو تسعى من خلالها لاستكمال رؤيتك للواقع الممكن ضمن هذا التطور ؟ وهل تتوقع أن مثل هذا البناء المركب سيتيح للقارئ التواصل أو يفترض قارئاً متدرباً أو قارئاً قادراً على المتابعة ؟ 
ج/ هي قيم وتقانات تحمل وجهين إبداعيين أولهما التقصي الجمالي للنص ليشكل وفقاً لمديات الجمال الفلسفي الذي أؤمن به وثانيهما تكون محوراً لاستكمال رؤية الواقع وإشكالياته والصراع الماكث في جوانياته ومعلناته ؟ وأعتقد أن هذه الشذرات التي يحتويها النصّ من فراغات وبياضات ونصوص واردة وإحالات خارجية تنبي لتشكل موسيقاها المتوالدة في هذه الانتقالات ، كل ذلك سيحدث أمام القارئ فيحثه على الاستزادة والاقتراب من التذوق الجمالي والمضموني للنصّ فلا يكون النصّ في مسار ديدنيّ متكرر يستدعي استجلاب السكونية ، والثبوتية بل ثمة رؤية متوثبة ورؤيا متجددة وحالمة وبين الرؤيتين تنمو قدرة المتابع والقارئ والمتذوق في جمالية التواصل ، أنا أؤمن أننا كشعراء يجب أن نرتفع بذائقة المتلقي لا أن ننصاع له لما يريد فنجد أنفسنا يوماً وقد أصبحنا ممثلين من الدرجة العاشرة وتكون وظيفتنا الاجتماعية والجمالية ساعتذ هي محاولة استرضاء المحيطين بنا ، وأؤمن أن الشاعر أو الأديب يجب أن يكون محوراً لبناء قيم جمالية جديدة ومحرراً من قيود جمالية صوتية ثبوتية لم تعد صالحة للاستعمال الفني في راهننا الحاضر والشاعر لن يأتي من الهباء ولا انبعث من قداسة سماوية بل هو انبثاق جمالي وانفجار جدلي واستقراء فكري يتقمص روحياً جدلية التجديد هادفاً في طريقه كلّ رؤية سلفية تحاول استحمار الذائقة وتعميم الوصولية وارتداء أقنعة رضائية لا تطمئن أرواح الناس في زمن عجائبي يحتاج إلى أكثر من عجائبية للتغيير بفعل الوعي وشذراته الجامعة المضيئة في تنوير السالب وتثوير الراكد وبعث وجود جديد بحلول روحي جديد يعمّ ويشع كلّ ما يحيط به صانعاً ركائز المستقبل وفق متبنياته الفكرية الجمالية الخالقة للحياة . 
س/ أستطيع إلى حد ما أن أتمثل في نصوصك – وأنت سليل كلكامش ، كلكامش بابل الذي لا يبحث عن عشبة الخلود ولكن عن سرّ من أسرار الحياة – ثمة شيء مجهول ، عميق يرقد داخل نصوصك وأنت تحاول أن تسْجليه أو تحاوره أو تسائله ، ثمة أغنية تلد الحياة وسكين تئدها ونصك بين الاثنين . 
سؤالي : هل الشعر سّر من أسرار الحياة التي تحاول اكتشافها باكتشافه ؟ أم مفتاح لاكتشافها ؟ 
ج/ بين الاثنين يقف الشعراء حائرين ومذهولين يملؤهم الأسى في المآل الذي سيكونون إليه فسؤال من يقول أن الشعر سّر من أسرار الحياة التي تحاول اكتشافها باكتشافه يربط بين حالتين أساسيتين بين أن تكشف السّر فتكتشف عرضاً الشعر وهنا سيكون الشعر لاحقاً لسؤال الحياة وجدواها . 
أما حين يكون الشعر مفتاحاً لاكتشاف أسرار الحياة فهو إذن المعادل الموضوعي الذي يقودنا إلى فهم حقيقي لأسرار الحياة فالشعر المنطلق من رؤية فكرية أو فلسفية راكزة سيتمكن من فهم الحقيقة الوحيدة في الكون ما يجعلنا واقعين في فهمنا لهذه الوسيلة العظيمة (الشعر) فالموت المجهول العميق الخفي الهوية السائر معنا منتهزاً غفلاتنا وسهواتنا وانشغالاتنا هو ما يرقد داخل نصوصي حقاً ، وكلّ ما سواه باطل ، سؤال الموت هو الوسيلة للكشف والاكتشاف بالمفتاح الأزلي الذي ابتكره الإنسان شعراً وفي كلّ اشتغالاتي الشعرية سعي خاص وواعي في ربط النصّ بالواقعية السحرية وانتقالها تنافذياً بالسرد الفني فالواقعية السحرية في النصّ الشعري حالة تستثمر اللغة وفيوضاتها المضمونية لتشكيل جمل تائقة لكشف السحر الشعري وصولاً إلى بنية كبرى لكلّ نصّ تعيش فيه الأغنية المتولدة من رحم الحياة والسكين المشهور للذبح سقياً لإطفاء تلك الولادة ولكن هيهات أن يحدث ذلك فالانتصار أولاً وآخراً للحياة وعنفوانها وجمالها وتناقضاتها . 
س/ أنتقل معك إلى سؤال – قد لا يثير اهتمامك بقدر ما يتطلع إليه قارئك بغض النظر عن طبيعة تصورنا للشكل الشعري وموقفنا منه ، متابعك يرى أن تجربتك تولد شكلها عموداً أو تفعيلة أو نثراً ، مركبة أو بسيطة طويلة أو قصيرة ومضة أو جملة أو نصاً مفتوحاً . 
سؤالي : كيف تنظر لشكل القصيدة بعلاقته مع التجربة ؟ هل ثمة تصور خاص للشكل عندك ، وآخر قريب إليك ؟ 
ج/ شخصياً وأقولها بشجاعة أنا لا أنطلق من حدّ شكلي معين وشخصي قبل كتابة النصّ . دائماً ما تقودني التجربة بقوة إلى الشكل الذي يأتي دون طواعية مني أو فطرية جاذبة متوارثة ، أو ظاهرة صوتية أعرفها ، لا يهمني سواءً أكان النص عمودياً أو تفعيلة أو نثراً ، مركباً أو بسيطاً طويلاً أو قصيراً ومضةً أو جملة أو نصاً مفتوحاً ، أنا كائن شعري أسير وأنا فاتح عينيّ ومشرع نوافذ حواسي كلها ملتقطاً كلّ ما يحيط بي بشكل واع أحاول في كثير من الأوقات صياغته بهدوء وقد استغرق زمناً طويلاً في كتابة جملة شعرية وثمة انثيالات واعية تأتيني لا تؤسس لشكل النصّ ولا تهتم به ولهذا تراني ألعب ثم ألعب بوعي وأنا أكتب نصوصي .. التي أشكلها منطلقاً من كشوفاتي الخاصة ورؤاي الواردة من خلال الوعي .
س/ قارئك ما أن ينتهي منك حتى يعود إليك ليضيء إقنوماً آخر ويوقد قنديلاً شعرياً آخر فالقصيدة عندك حزمة قناديل ملونة لذا أودّ أن تحدثنا عن البدايات كيف تشكلت ثقافتك المؤسسة وأين توجهت بوصلتك وكيف صبغت علاقتك الشعرية لاسيما ونحن أمام نصوص مثقفة ؟ 
ج/ المجيء إلى فردوس الشعر يتخذ عدة طرق ولا يتشابه فيها الشعراء في كلّ العصور والأماكن والأجناس ربما يكون السبب عندي متأتياً من نزعة موروثة أو من خضم أسرة دينية وأدبية لها دور مشهود تأريخياً في هذا الفردوس هذه النزعة أرادت الإجابة على سكونية ما يحيط بي إنساناً واعياً بالواقع مبكراً وأنا أصاحب جدي وأبي ومن ثـُمّ أخي الكبير إلى مجالس العزاء الدينية والمجالس الاجتماعية التي كانت في بابل / الحلة يومئذٍ فانبثقت الأسئلة التي تبحث عن المجهول / الشاعر الذي كان يكسر رتابة الواقع في كلّ شيء ، الأسئلة هي التي قادتني إلى عالم الشعر واحتداماته وصرعاته وتناقضاته لقد كانت أسئلة بسيطة أولاً عن الشاعر / المجهول الحاضر بيننا في نصوصه كالسيد حيدر الحلي/ الحميري/ صالح الكوّاز/ القزويني/ الصاحب بن عباد/ أبو العلاء/ المتنبي/ الشريف الرضي ... إلخ .               
الأسئلة هي التي قادتني طفلاً إلى الشعر ، أليست الأسئلة هي السعي لإزالة المجهول والجنون والخوف والطريق لاكتشاف محتوى الواقع وجدواه بأجوبة لمّا تأت بعد .. ولكنها في حينها كانت تقودني إلى اطمئنان آني يناسب مداركي ومعارفي . من هنا بدأت التجربة صبياً صغيراً وشاباً ورجلاً وكهلاً فإن كان الشعر في خطواتي الأولى ملفوظات لإنتاج فهم صار طريقاً لإنتاج معنى وحلم ، بل انبثق منه صراع وفعل درامي أو حكاية داخل الشعر ، والقراءة الواعية والتحصيل الثقافي والتنوع والحفظ (أكرر الحفظ) والإيمان بالقدر أن تكون شاعراً والوعي بوظيفة اللغة في الشعر والإحساس بها إحساساً روحياً وبالدخول في تجارب كثيرة ابتداءً من العمل صبياً مع الأب والجد والأخ وانتهاءً بالاستقلال صار الشعر عندي عالماً أتوق إلى بنائه بوعي وإصرار عجيب كبناء قائم على صراع أزلي بين ثوابت مقدسة ومتحركات مبتكرة بالاعتماد على آلية اشتغال فنية كبرى لامّة لتشظيات ما يحيط بي من تجارب وكنيات صغرى تقود إلى الكناية الكبرى لكلّ نص أو مجموعة شعرية ، كنايات قادمة ومصاغة مما يحيطني من تجارب إنسانية أعيشها بتفاصيلها واعياً ومجدداً فيها لمدة طويلة أحياناً قبل أن أخرجها بقناعة نصاً عاجاً بالأسئلة وجوهرها لتحريك تلك الثوابت ، الصراع سمة أساسية في نصوصي صراع من أجل الاكتشاف المخبوء تحت جلد الواقع والألفاظ . 
وكنت وما زلت قارئاً نهماً وواعياً بقوة الباصرة وثقة الذاكرة فما من كتاب أردته إلاّ وحصلت عليه وما من عالم جذبني إلاّ وتصارعت لكشفه جمالياً ، قرأت كثيراً منذ الابتدائية وأسس لي أخي الكبير أبي علاء أول مكتبة لي وأنا في المتوسطة قرأت الدوريات والصحف وكلّ ما وقع بين يدي ولم أدع شيئاً مرّ أو خبراً أو مطبوعاً إلاّ وقرأته فتكونت لدي حصيلة ثقافية واسعة من وراء ذلك الشعراء بعصورهم والمفكرون بمدارسهم والفلاسفة بمناهجهم قديماً وحديثاً متجاوزاً في كثير من الخطى قدراتي الذاتية في اقتناء واستيعاب ما أريد حتى باتت القصيدة عالمي الذي أعيشه وتركت دونها الكثير الكثير وضحيت دونها الكثير الكثير لأنني في دفاع دائم عني وعنها .
س/ تقدّم مهمة المثقف إذ ينتج أفكاراً ويوضح مواقف ويستولد رؤى من خلال نصوصه – أياً كان جنس الإبداع والتفكير – بل بات عليه أن يقود ميدانياً ويضع أفكاره حيز الميدان وقد مارست العمل النقابي في الاتحاد لسنوات وكنت من بين مجموعة من المثقفين الذين رسموا خطوط جديدة بعد 2003 ، كيف تنظر لهذه المهمة ؟ 
ج/ أنظر إليها كمهمة مقدسة وأشعر أن عملي في الاتحاد امتداد لبنائي الثقافي والإبداعي وأنا محظوظ أن أعمل مع مجموعة من مبدعي العراق المخلصين المؤمنين بالإبداع لا غيره .. لقد حاولنا وما زلنا ندعو إلى سيادة الإبداع في الحكم على المبدع من خلال نصه وقد نصطدم أحياناً في معادلة خطيرة تتحكم في مشهدنا الإبداعي وهي غلبة الأحكام الاجتماعية على الأحكام الفنية ، هذه المعادلة لا تخص العراق بل كثير من بلاد العرب والبلاد المجاورة والعالم الثالث ولكنها تتضح بقوة في بلدنا بسبب من تجارب تأريخية مريرة عاشها المثقفون والحركة الثقافية العراقية بعامة ونحن نسعى دائماً بإخلاص وشجاعة إلى ما يمكن الأديب في التعبير عن تجاربه بحرية .. وهي مهمة مقدسة أجلّها وأحترمها ومستعد للتضحية من أجلها . 
وللعلم فأنا لست طارئاً على العمل النقابي فمنذ 1984 وأنا أعمل فيه على مستوى اتحاد أدباء وكتاب بابل أو المجلس المركزي أو المكتب التنفيذي إن 36 سنة من العمل النقابي أكسبتني خبرة المرونة في العمل والفهم الحقيقي لشخصية الأديب ومحاور السعي بإخلاص لاحترامه وتشخيصه ودعمه في الحدود التي نتمكنها .. إن العمل في الاتحاد - كما أعتقد - تكليفٌ وليس تشريفاً وهذا ما نؤكد عليه كمجموعة عاملة بإخلاص ومحبة وتفانٍ خدمة للأدباء كلهم وينتظرنا الكثير لبلورة مشهد إبداعي مهني وطني متقدم . 
س/ آخر ورقة من سفر تصوراتك .. ثمة جيل شاب يقود القصيدة العراقية إلى أفق رحب كما يظهر أو يدور .. ما تقييمك ؟ توقعك ؟ رؤيتك ؟    
ج/ من لا يقف مع الشباب فكأنه وقف أمام مسيرة الزمن هكذا هي الحياة ولابد بل واجب على الجميع أن يكونوا من المناصرين لهم الداعمين لمشاريعهم الحقيقية المستندة على دوافع مشروعة تسعى إلى أخذ الشعرية العراقية إلى أفق أرحب مما هي عليه . 
إلاّ أن المتابع بنظرة فاحصة ودقيقة سواءٌ أكان الشباب من شعراء قصيدة الشعـر أو شعراء قصيدة النثر يدعونا المشهد أن نقف معهم نشاركهم رؤاهم ونهيّئ لهم سبل تطوير مواهبهم نمكنهم من الاستزادة من المعرفة وسبر أغوار التجربة الحياتية وندعوهم لتكوين ذواتهم معرفياً وثقافياً ولغوياً فالشعر لا يكون بالموهبة فقط ولا بالأمنيات هو عالم لا مرئي من عناصر أساسية تقف الموهبة لوحدها فيه عزلاء ومخذولة لتساعد الشاب في السير والوصول إلى الألف خطوة القادمة متسلحاً بخواص الشعر ومتعلقاته وجوهره وهنا لابدّ من القول إن المشهد الشعري العراقي زاخر بالمواهب ضاج بالأدعياء ومختنق بالنهازين الذين يدعون خلاف ما يملكون في كلا الفريقين قصيدة الشعر وقصيدة النثر وهم يحتاجون إلى صبر عميق وسعي دقيق ووعي كبير للارتقاء والوصول إلى طبع بصماتهم الخاصة فلا يلهُ بعض منهم في جريمة قتل الأب لأنها أعظم جرائم التاريخ كما قال (ديستوفسكي) العظيم ولا إلى قتل الأخ فيكونون كهابيل وقابيل صنوي صراع غير شرعي من وجهة نظر واحدة .
والمشهد الشعري العراقي الشبابي بحاجة إلى (فلترة) قاسية تأخذ بيد الشعراء القادرين على التقدم بثقة هذه (الفلترة) ستقود المشهد إلى السلامة وتخلصه من شوائب كثيرة وعليهم أن لا ينسوا إنّ الشعر فن لغوي أولاً وآخراً فن لغوي ينمو بالمعرفة وبالموهبة وبالتجربة وبالصبر والشجاعة والإيمان بأنه قدر حياتي لهم وليس رغبة عابرة أو تطلعاً أعرجاً أو نزوة مشلولة .. إنه حياة ضاجة بالجمال والكشف والوعي والصراع ، الصراع من أجل أن يكون ملاذهم الآمن وفردوسهم المفقود .. 
أنا أرى أن المشهد الشعري العراقي بوجود الخلّصُ من شبابه الشعراء سيكون في طليعة المشاهد العربية الشعرية وسيصل إلى رتبة العالمية إذا آمن فواعله المبدعة بأن الشعر قدرها في الحياة ..  




google-playkhamsatmostaqltradent