recent
أخبار ساخنة

عند حافة النهر قصة ليست قصيرة- عزيز داخل


عند حافة النهر
قصة ليست قصيرة

توقف عند حافة النهر, عيناه إلى الشاطئ البعيد, ويده على جهة القلب. انه يقف منذ سنوات, وحده دائما, يتمتم كلمات مبهمة وبصوت اقرب للهمس, وأحيانا يقف متأملا لوقت طويل, ينظر باندهاش إلى غابات النخيل في الشاطئ الآخر.
انحدرت دمعة ساخنة ثم انهال شلال دمع على خديه لترسم دوائر تنتهي برؤوس مدببة تحفر فيهما قبل أن تسقط على الأرض بين قدميه.
بدأ ما يشبه الصراخ, يصعد نحيب خفيف, نحيب داخلي على ما يبدو ثم يعلو لينطلق نشيد شجي يبدأ ولا ينتهي إلا بعد سقوط قرص الشمس وراء الأفق.
أيها الفتى المسكون بالضياع والعدم : ماذا جرى ؟ هل فقدت عقلك ؟ ستموت إن بقيت على هذه الحال, علامات الأسى تجثم على وجهك الشاحب وفي عينيك الجاحظتين.
كان صوته يرتد مثل صدى وهو يطلق الكلمات المشحونة باليأس ومثل صدى بعيد يجيب : دعني أوزع أشجاني في كل بقاع الأرض وأودع روحي التي رحلت هناك بين غابة النخيل وآلاف الجثث المرمية على طين شباط البارد. دعني استمتع بألم التذكر, دعني مع هذا الجو الجنائزي .  هكذا وكأن قوة جبارة تسحلني إلى هنا.
هنا حيث الأسى إلى أقصاه, والخوف عند حافة النهر إلى أقصاه, والبرد إلى أقصاه.
لا يكن إيمانك بالله ضعيفا, فكلنا نموت ولا بقاء إلا لله .أين أجدادنا وآباؤنا وإخوتنا و.... كلهم غادروا هذه الحياة, إنها محطة للعبور وليس للبقاء.
كان صوته المبحوح بفعل البكاء المتواصل يردد بقوة : لا استطيع النسيان, كان أخي وصديقي, كان اقرب إلي من نفسي, دارت الأيام دورتها وافترقنا, فرقتنا حرب ملعونة قام بها فرد لتبيد جماعات.
الحمد لله على كل حال يا أخي, الله يفعل ما يريد, وليس بأيدينا ما نفعله.
أجاب بصوت القانط من الحياة : الله لا يظلم عباده, وبأيدينا الكثير, الم تكن ارض الله واسعة فنغادر كما فعل الكثير من الشباب. لكنه الخوف والخنوع.
كلامك صحيح ولكن كيف بأطفالنا ومعيشتهم ؟ الم تسمع بأنهم نصبوا سيطرات إعدام في كل الطرق المتجهة من جبهات القتال حتى المدينة ؟ الم تعلم إن عيون الأقرباء قبل الغرباء تحدق فيك أين ما تذهب ؟ الم تعلم بأنهم يصادرون حتى البطاقة التموينية ؟ إنه رعب ما بعده رعب ؟
وهذه النتيجة, موت بالجملة وكوارث لا مبرر لها إلا إرضاء شهوة الطغاة في الحرب والقتل والحكم .
انك ستموت وحياتك غالية عندنا, والله إن وجودك بيننا له شان كبير, عد إلى رشدك وامنح نفسك فرصة لتسلق الحزن وتجاوز المأساة واعبر مع الآخرين هذا الامتحان .
فتح كفيه ونشر حبات قمح على حافة النهر ثم هبط إلى النهر وضع يديه في الطين واتى بقبضة منه, قال: بهذا الطين الحري سأنحت تمثالا  لأخي واضعه مع صف التماثيل المشيرة بيدها إلى الشرق, انحته واجعل سبابته إلى الغرب, إلى شبه جزيرة العرب بالتحديد, حيث أتى أمر الحرب من هناك.
لا يا صاحبي لا تزيد الطين بله. ماذا دهاك ؟ انك تعرض نفسك للهلاك واهلك للملاحقة والمضايقة والمساءلة.
وضع قطعة الطين  على الرصيف, ضغطها بيديه, أدارها يمينا ويسارا حتى أصبحت مثل اسطوانة. جعل مقدمتها من فوق اكبر حجما, وبعود من غصن شجرة اخذ يحفر في جانبي الرأس ثقبين مثل عينين غائرتين. وانف قصير يتصل من الأعلى بفم مستدير, وقد جعله مسجى على الرصيف وكأنه في حالة احتضار, وبخط واضح المعالم كتب أسفل الرقيم الطيني. المرحوم سعدون داخل كاطع المقتول ظلما وعدوانا.
لم تكن المسافة بيننا سوى خطوات, وكلما انسحب إلى الوراء متحمسا ليلقي نفسه في الماء, كنت اندفع طواعية لتقريب المسافة وتفويت فرصة الانتحار عليه.
وقف بعد خطوات وتساءل في عصبية: من يملك الحق في منعي من الرحيل ؟ كنت اصرخ مختنقا: أمك المسكينة. حاول أن يتراجع وقد انطلقت تساؤلاته: من يهدئ من روعي ؟ من سيعوضني قمرا آخر؟ من يوقف نزف الكوارث؟
قلت بهدوء: استغفر ربك يا أخي, وارحم شبابك. إنها مسالة وقت ويلهمك الله الصبر, ويدفع إليك نعمة النسيان .
كيف لي أن أنسى, في السنة الماضية ومثل هذا الوقت كنا نتبارى معا . كان يقسم بأنه سيتزوج  خالدة, وكنت اقسم بان أتزوج أنا حميدة . لم نخلد إلى الراحة يوما واحدا, في كل إجازة نتحاور, وحين لا تتفق إجازتي مع إجازته, كان يخابر بجهاز اللاسلكي, نتعاتب طويلا, ونتشاجر طويلا, وفي النهاية نتعانق مثل طفلين ونبكي, ولكنه بكاء بطعم الابتسامة, لم تكن معركة نهر جاسم قد بدأت, لتحل كارثة مقتله, وكارثة ما سيحل من بعده . لم يتزوج هو بخالدة ولم أحظى بحميدة, وقادني القدر أن أتزوج ....., آه يا أخي إنها مرارة, ما أبشع أن ترى أخاك في تفاصيل يومك:غرفته, ملابسه, زوجته, أطفاله, أمه التي لا تكف عن البكاء, وصورته التي تصرخ بي: أخي أوصيك خيرا بولدي.
جلس على حافة النهر, غسل وجهه وأحس ببرودة الماء تغسل أدرانه.
حين التفت إلى صوت رجل, شعر بدبيب حياة, بوخزة ابرة, بقصيدة شعر, بفجر يسطع في ظلمته, مد يده الساخنة إلى زائره الغريب . من أنت؟ وابتسامة رجل في الثلاثين, ابتسامة رجل رأيته قبل سنوات فتى قليل السمرة نحيل الجسم, له من السحر والجمال ما ألهمني الحب والحياة.
أنا مهدي, أتذكر فرارنا من الكويت ؟ وعبورنا شط العرب أمام عيون الرقباء.
أنت مهدي ؟ وقبل أن أكمل سؤالي رفعني بقبضتيه وأدناني إليه وقال: لنذهب إلى البيت لي حديث طويل معك.
من شاطئ النهر وبالضبط من تحت احد تماثيل العسكر انطلقنا بزورق إلى الضفة الأخرى, عبرنا وحدة ميدان الطبية التي نقل إليها أخي مصابا قبل بدء المعركة بثلاثة أشهر, ثم اخترقنا البساتين وغابة النخيل التي احترقت و تهاوت بفعل الحرب, ودخلنا إلى ارض المعركة.
يدي بيدك يا مهدي أعاهدك على المضي أين ما تريد. ارض الحرام تتنفس طين شباط ومطر غزير لا يقبل التوقف ينشر إعصاره على آلاف الجثث المرمية بأشكال متداخلة ومختلفة, سحبتني اليد الحنونة ونحن نعبر الجثث الطرية بحذر, ضغط مهدي على يدي بقوة وتوقف, أشار  إلى جهة اليسار, حيث تقف نخلة مثمرة, ويد جندي تمتد من خلال الطين تهز النخلة بود, أصبع ناحل وخاتم زواج ومحفظة نقود, انه هو يتساقط على جثته رطب كثير, وطيور رمادية اللونِ تنقر وتطير ونسوة يلطمن وينثرن شعورهن, وطوابير من الصبيان تنهب الرطب وتهرب باتجاه المدينة.
google-playkhamsatmostaqltradent