. التَّشاكل السردي
بين قصيدة النثر والقصة القصيرة جدا
لايختلف اثنان علىٰ تعرض الأجناس والأنواع الأدبية لصيرورات مستمرة ومتراتبة ، ليس لرغبة في التطور ومغادرة المألوف ، وانما بفعل التحولات البنيوية في المجتمع المستدعية تحولاً في الٱليات تتناسب والتحول في المضامين ، ولعل التداخل بين الأجناس والأنواع الأدبية واستعارة ٱلياتها يعدُّ من فواعل الصيرورات الجديدة للاجناس ، وقد أشّر هذا التداخل الىٰ ظهور تشاكل بين الأجناس المتداخلة ، ويشير المعنى اللغوي لمفردة التشاكل الىٰ التشابه والتماثل والتوافق ، والمصدر هو التشاكلُ ، تشاكلَ المشهدان اي تماثلا وتشابها , والى مثل ذلك يذهب المعنى الإصطلاحي الذي كرّسهُ السيميائي غريماس بعد ترحيله من حقله الكيميائي إلى النقد الأدبي ، فأشار إلى ( التشاكل في تصورنا هو تبادل الخصائص الشكلية بكل مظاهرها النحوية والمورفولوجية والايقاعية ) ،وبهذا المعنى فإننا سنذهب إلى معاينة الخصيصة السردية التي تشاكلت عبرها بنيتين هما القصة القصيرة جدا وقصيدة النثر ، هذه الخصيصة التي تماهت عبرها الحدود الإجناسية الىٰ المستوى الذي صار معه صعوبة التفريق بين هذين النوعين .
وهو ظاهرة مؤشرة عند أغلب النقاد والكتاب ، حتى أن العديد من المهتمين قد طرح سؤالاً يتضمن كيفية معرفة العقائدية الإجناسية لهذا النص بكونه قصة قصيرة ام قصيدة نثر ، فالتنافذ والتداخل وارد بين هذين الشكلين الى درجة الغاء الحدود بينهما سواء كان عن قصد او عدم معرفة الحدود الإجناسية وقواعد بنائيتهما ، ولعل الإحتمال الثاني هو واقع الحال ، ونرى بأن آلية السرد هي الفضاء المشترك بين هذين النوعين ، ومن الممكن فك الإشتباك الحاصل بينهما في محاولتنا هذه في سياق السطور القادمة .
يعد السرد منظومة تشترك بها جميع تفاصيل العلائق الإجتماعية وتم تقسيمه الى سرود فنيةتمظهرت في الفنون والآداب وسرود أخرى توزعت الانشطة الاستهلاكية ، وبذا فإن ماينظم تلك العلائق الانسانية ان هو الا سرود ، طالما ان السرد بأبسط تعاريفه هو (إخبار) حسب افلاطون، وتتميز السرود الفنية بقدرتها على إخبار ونقل لتجربة حياتية يتم من خلالها توصيل وجهة نظر او رؤية تتسم بالجدة والتأثير باتجاه تكريس الإحساس بالحياة ومركزة الإنسان وقيمه الحضارية .
لذا فأن السرد عامل مشترك في كل الفنون والآداب بإختلاف الصيغ والأساليب المعتمدة في سرد التجربة الفنية والأدبية ، وتعد قصيدة النثر واحدة من الأجناس الأدبية التي تعتمد السردية في بث خطابها بما ان الجزء الثاني المكون لها بنائيا هو النثر ، وكذلك القصة القصيرة جدا فهي نوع ينتمي الى السرد الذي يُعدُّ العمود الفقري و واحداً من الأركان المهمة للقصة بإعتماده الحدث والشخصية والزمان والمكان ، اذن يحق لنا التساؤل عن الحدود التي يسمح بها لكاتب قصيدة النثر وكاتب القصة القصيرة جدا في استخدام السرد ، ولعل الإجابة تكمن في تضمين القصة القصيرة جدا عنصر السرد عبر الحكاية وبدونها ليس هنالك قص ، وبمعنى آخر فإن السرد في القصة القصيرة جدا يتخذ وضعاً حكائياً ، وهو _ السرد _ ٱلية ضرورية تقوم عليها قصيدة النثر حسب سوزان برنار ، إذ انها تتشكل وفق نظام الكتلة او الفقرة المتضمنة موضوعا نثريا يتوقف فيها السرد عند حدود الإخبار عن تجربة ما ليس بالضرورة أن تكون حكائية كما تشترط بنائية القصة القصيرة جدا ، وبمعنى ٱخر فإن لجوء قصيدة النثر إلى السرد هو لجوء يصطنع السرد المكان بالصورة الشعرية لإظهار قدرة النثر على تحقيق الغاية الشعرية فيه ، ومن الممكن أن ينقطع خيط التراسل السردي ليترك فرصة لتحقيق شعرية النثر ، الأمر الذي لايسمح فيه هذا الانقطاع في القص القصير جدا ، إذ ينبغي الذهاب الى نهاية الحدث ، وهنا يتخيل للعديد من كتاب قصيدة النثر ضرورة تضمين السرد عبر الحكاية مما يجعل نصوصهم تقترب من القص وبوجود المفارقةواحيانا بدونها ، كما ان عددا من كتاب القصة القصيرة جدا يستخدمون في بناء قصصهم عنصر الشعر عبر الصور الشعرية التي تكونها الآليات البلاغية كالتشبيه والاستعارة والمجاز فتبتعد عن قدرتها في تخليق الحكاية ، لذلك نجد العديد من القصص القصيرة جدا تهتم بالوظيفة الانفعالية/ الشعرية للنص دون الاهتمام بالحكاية ويتصورون انهم يكتبون قصة قصيرة جدا الا ان مايكتبوه لايعدو كونه خاطرة ، وفي كلتا الحالتين ابتعاد عن الاصول البنائية لقصيدة النثر والقصة القصيرة جدا ، لذا فإن خطر هذا التداخل يعود بالضرر على نقاوة النوع وهويته الإجناسية
الذي يعد تداخله مع بقية الانواع او الأجناس هو خروج الى نوع جديد أطلق عليه رولان بارت ( النص) أو ( الأثر الكلي) كما أطلق عليه هنري ميشو ، وهو نص يقترب من توصيف نص مابعد الحداثة الذي أعلن فيه عن موت الأجناس ، عندئذ لايحق لكاتب قصيدة النثر أن يدعي ان مايكتبه هو قصيدة نثر ولايحق لكاتب القصة القصيرة جدا ان يدعي ان مايكتبه هو قصة قصيرة جدا ، ولاشك بأن هذا التداخل والتنافذ الذي يلغي الحدود الإجناسية بين قصيدة النثر والقصة القصيرة جدا ، يعود بالضرر على النواة الصلبة للشروط الإجناسية المقاومة للاندماج والأندثار ، إذ أن وجود ٱليات مشتركة بين النوعين ، كالإختزال والتكثيف وشعرية الصورة والمفارقة لايعني توفر قابلية الاندماج أو التنازل عن الحدود الإجناسية للأنواع بقدر ماهو واحد من تحديات الرتابة والنمطية التي تستوجب وضع اي نوع في حركية الصيرورة والتطور الإجناسي لكل نوع دون التخلي عن مرتكزات البناء النوعي ، مع الأخذ بنظر الإعتبار إمكانية التداخل الإجناسي بين الانواع الذي سيكون وسيلة لإثراء النوع وقابليته الصيرورة المستمرة ، ان ماينبغي حصوله من عملية التداخل الإجناسي هو استثمار الٱليات المشتركة بين القصة القصيرة جدا وقصيدة النثر ولعل في مقدمتها خاصية السرد الشعري والقصصي دون حصول محوٍ للحدود النوعية ، فما هو شعر يبقى في منطقة تحقيق الغاية الشعرية ، وماهو سرد يبقى في منطقة تحقيق الغاية السردية دون غلق الباب أمام الكاتب من تحقيق الغايات ، فقصيدة النثر نثر غايته الشعر ، والقصة القصيرة جدا نثر وسيلته السرد المتواصل ، وأن استخدمت ٱليات مشتركة إلاّ أنها لاتبعده عن تحقيق الغايات الإجناسية والنوعية ، وكلا النوعين يهدف إلى الامساك باللحظة قبل أن تنزلق من سطح الذاكرة ، للتعبير عن الواقع المأزوم الذي يشهد تدهورا في القيم المجتمعية .
اخلص من ذلك إلى أن التشارك والتشاكل بين قصيدة النثر والقصة القصيرة جدا في الخصيصة السردية إنما هو أمر قار وشرعنته طبيعة الراهن الذي وجد في التداخل والتنافذ الاجناسي وسيلة لإحداث الصيرورة في الأنواع الأدبية ، أما إشكالية التفريق بين النوعين فيعود إلى عدم الوعي بمهمة ووظيفة السرد في كل من الجنسين من قبل الكتاب أنفسهم .
______________________
: