لعلي لفتة سعيد"
الهادي عرجون* تونس
عندما يحين أوان الجنوب ليؤرخ دهشة تمتطي شهقة السؤال، وأنت تجس ما تعدد من مسبحة الضوء لتختفي فيه، وتخفي ضياء المسافات، يكون الرقيب، وتأنس من جانب الشعر ضوءا، ليولد لحظة قيامة الورد " أختفي في الضوء " الصادرة عن دار الورشة الثقافية للطباعة والنشر والتوزيع بالعراق في 120 صفحة، للشاعر والروائي العراقي "علي لفتة سعيد" و قد قسمه إلى بابين مبينين كالآتي:
"أحدثك عن الضوء"،احتوى على 25 نصًا شعريًا.
"يختفي في الحلم"، و قد ضم 16 نصًا شعريًا.
ليحدثنا في القسم الأول عن الضوء، ويختفي في الحلم في القسم الثاني، يحمل كل منهما تناقضا وتنافرا تارة وتآلفا وتناغما تارة أخرى.
الشاعر علي لفتة سعيد الذي صار مع الحزن و البلاد قصيدة بلا قواف مفعمة بجملة من من المشاعر الوجدانية العاطفية معجونة بلحظات الألم والأمل، ألم الموت والحياة، ألم الحلم والذكرى، ألم الحرب والحرف، والتي بدت في أغلب نصوصه صريحة تارة وخفية تارة أخرى، تقودنا إليها موسيقى الشجن والفرح، وبذلك تكون هذه المجموعة قد أنجزت الغاية أو بعضا منها في تقريبها للقارئ، ابتغاء الوصول بمحتوياتها الفنية وإخراجها في أحاسيس لها أجنحة تحملنا من حزن إلى فرح و من فرح إلى حزن.
ومن خلال تتبعنا لمفاصل المجموعة نلاحظ عدم تبني علي لفتة سعيد للبنية التقليدية للشعر العربي القائمة على الصدر والعجز والوزن والتفعيلة والقافية، وهو لا يتعارض مع الحداثة، حيث لا بد لنا من تجاوز التصنيف الخارجي للشعر والدخول إلى أعماقه وجوهره، لندرك أنه ينطلق من منبعٍ واحد ويتغذى من شجرة واحدة، فالشعر في رأيي هو الشعر مهما تعدّدت فيه الأشكال والألوان. والشعر هو الحديقة التي تتّسع لجميع الأزهار بمختلف أنواعها وألوانها وبذلك فالشعر يتّسع لكل الأنماط والألوان الشعرية سواء كان النص عموديا أو نثريا.
ومن خلال تصفحي للمجموعة اتضح بالكاشف تمكن الكاتب من أسلوب وتقنيات كتابة القصيدة النثرية، فالكاتب يملك قدرة عجيبة على تطويع الكلمة وفض بكارة المخيلة، التي ينفخ فيها من روحه ليولد النص، وهذا ليس غريبا عن الكاتب علي لفتة سعيد القائل:" الكتابة خلق لأشياء، لا يمكن للآخر ان يجد سبيلا لخلقها أو إعادة خلقها من جديد".
فالشاعر علي لفتة سعيد لا تخلو قصائده من الغنائية، التي من شأنها أن تجعل قارئ المجموعة يشعر بالصدق الذي يرمي بثه في القارئ، عن طريق العزف على أوتار الروح والوجدان والعواطف التي جمعها في صفحات نرتوي منها رحيقا سائغا للقارئين وللمتتبعين والمطلعين على شعره.
وقد اعتمد الكاتب أسلوب التكرار، الذي يعد أحد أبرز الظواهر اللغوية البلاغية والأسلوبية التي امتاز بها الشعر العربي قديما وحديثا، حيث يعرفه الجرجاني بقوله: " التكرار هو عبارة عن الإتيان بشيءٍ مرة بعد أخرى" وقد أتى التكرار في مواضع مختلفة من الديوان وهو ما ولد موسيقى وإيقاعا، والذي يعكس جوانب هامة فيما يتعلق بحضور الأديب وحالات تفاعله النفسي مع الموجودات مما شكل تفاعلا بين أنا الشاعر و"الأنتِ" الحاضرة الغائبة في نفسية الشاعر، والتي جاءت لتحيل على الوطن مرة، وإلى الأم مرة أخرى، وللمرأة والحبيبة في عدد من المواضع. لذلك جاء التكرار بتكرار حروف وكلمات وعبارات ومعاني، و هذا التكرار جاء متعمدا وليس لضيق العبارة أو العوز اللفظي - ان صح القول- بل عن دراية وتخير، ليضفي على النص إيقاعا داخليا وخارجيا نفسيا.
وبما أن التكرار ظاهرة فنيّة تحفيزية تثري دلالات النص، وتزيد الخطاب جمالاً وائتلافاً نسقيا، كما له صلة وثيقة بدلالات الكلام ومراميه، كما يعرفها النقاد. فالتكرار يمكن أن نشبهه بالبرق الذي ينير الظلمة، فهو الذي ينشر الضوء على العبارة، وهذا ما جعل الشاعر يختفي في الضوء، فعبارة الضوء وردت في النص (33مرة)، فهو اختفاء في العبارة وذوبان في ألفاظها، وقد أحسن استثمارها لخدمة النص، ليضيء عتمة الذات ويكشف عمقها وأبعادها ليؤكد الحالة النفسية التي يعيشها، إضافة إلى الوظيفة الإيقاعية التي يمثلها ذلك التكرار.
وهذا ما جعل النص يبنى على ثنائية الضوء والظلمة خدمة للنص ودلالة على الوجع والألم تارة، و للدلالة على الفرح المغلف بطابع الحزن خاصة. كما أن البناء التكويني للعالم منذ خلق الله الأرض ومن عليها قائم على صراع الأضداد، والتي لا يقوم أحدها إلا لنفي الآخر أو إثباته وفق حتمية تاريخية مرتكزة على مجموعة من الثنائيات والمتضادات (الحلم ≠ الذاكرة، الحياة ≠ الموت، الضوء ≠ الظلال،...).
حيث أنه يعيش حالة صراع بين الألم و الحزن من جهة والسعادة والفرح من جهة أخرى ليتحول النص ويرقص بين لغة ضوئية إن جاز وصفها تتلاشى تحت سلطة الظل:
"اكتشفنا إن الشهادة من أجل سلطان
و إن الجرح يرتاب ألمه ..كلما ضغطنا على أمل الشفاء
نتعلٌم ألا نكون أغنية مؤجلة
كي لا نتشبث بحبل من خيط العنكبوت
كي لا يدهمنا الموت ..ونراقب ما يسكب من دموع
تعلمنا أن ما فينا لا يبلل المرايا .. فتراكم الغبار
وتعلمنا ألا نمر على الحقول.. فتكاثرت الجرذان
وتركنا النوافذ مغلقة .. فضاع الضوء
وصارت الأزقة طرق المكوث
تعلمنا .. أقصد البلاد
كيف نحصد لها الأرواح .. فتنبت في الحدائق المقابر
نتعلم كيف نلمح الظل.. ونمسك بالضوء"(ص85).
والذي يظهر أيضا حتى في عناوين القصائد التي جاءت سجلا حيا للتعبير عن معاناة الشاعر خاصة، كما أن بواعث الحزن والألم شتى، جعلت الشاعر لا يرى إلا الظل والموت مثل قصيدة ( لحظة مدفن- قيامة الورد- وطن ورايات التوابيت- فرح المقابر).
ليكون الألم والحزن الذي رافقه وعبر عنه بصورة جلية، فهو يحاصرنا بنمطية فرضها على طول المقاطع الشعرية في الديوان فلا يخلو نص من نصوصه إلا وقد وشحه بسوداوية رغم ما فيها من بصيص نور و أمل و ضوء.
ولعل عزف الشاعر على ثنائية الضوء والظل يربك القارئ و يجعله يركب تقنية الكشف والإخفاء، يقول في قصيد "أحدثك وما حدثتك" ص (77و78):
"هي الضوء الذي خبأ ظلك
بين صدريها والحلم
فكان كتاب الأسماء الضائع
ما حدثتك عن الليل
عن ترنيمة الوسادة وألواح الدبيب
عن الأحلام وما يسري في الغناء"
ليكون التخبط بين التذكر والذكرى(17 مرة) تارة والحلم واللاحلم (40 مرة) تارة أخرى:
" حتى إذا تشققت أرض الزمن
تلون خد الحلم
بما تركته الفراشة من طحين جناحيها
لم أسع إلى البكاء
ظل وحيدا يرسم علامته على وجهي
وقدرته على الإثبات أنه ينام دائما في عيني
وخزة من ذاكرة ذابلة
تراه يسيل فيحوقل
حتى يعود من جديد ليبسمل لحلم آخر"(ص 39)
ليولد القصيد ويأتي جبريل الشعر بأبياته التامات ليكتب من الحرف آياته الشعرية الخاصة:
"الشعر أن تكون إلها
أن تخلق من الحرف آياتك الخاصة
وتأتي بجبريلك
و تكتب كتابك
القصيدة"(ص8).
كما يستثر الشاعر إيحاءات خاصة في مفردة (الحرب والحروب) التي وردت في الكتاب أكثر من (18 مرة)؛ ليعكس بها واقعاً حياتياً معاصراً تستباح فيه المشاعر ويتألم فيه الوطن، وتتعاظم فيه المآسي، دونما مراعاة لمبادئ الإنسانية، حيث يقول:
" والحصى اليتيم بلا أثر
ما كنت لا أعرف وأعرفه
أن الحرب بلا رأس
لها من الضحايا أفئدة
ومن الطوفان تشابه الجحيم
وكل النهارات مخنوقة بالبارود
والساعات تجتر الدماء
والأرض مسكونة بالشخير
لا تأبه للموتى
ترابها المنقوع بالجوق
يرتدي ثوبه من جديد
حين يجعل الأشلاء بطانة من عظام"(ص 42).
ولكن هذه المفردة التي تعبر عن المآسي جاء جناسها الحرفي مع عبارة ( حرف وحروف) التي وردت في الكتاب (38 مرة) لتدل على الحرية والانطلاق والإبداع وبناء القصيدة الأنموذج التي يرمي الشاعر كتابتها:
"ومن أناشيد لم تكتمل
وأدرك أن الله أجملنا.. يسكن فينا
نغنيه.. يحب الغناء منا
كي يبقى النبض بلا علقم
ولا نشم النار في الفرح
ولا يريد لنا أن نكون عابسي صلاة
هو مشهد بين الأحياء في العالم الآخر
لملمت روحي و عبأت الحروف
وأغمضت عين القصيدة على السطور"(ص 33).
كما كشفت نصوص المجموعة عن بعد ديني واضح، فالشاعر ينهل من المنهل الديني لإثارة التساؤلات وإثارة الدهشة لدى القارئ الذي يعمل عادة على تأول النص الشعري من منظوره الخاص، ويتجلى ذلك من خلال استعمال طقس ديني صوفي بما فيه من أركان باستعمال مفردات كـ:( المسبحة، المسجد، المصلى، المؤذن، الإمام، المحراب، الأدعية، يرتل، الشهادة، سجود، ركوع، الوضوء، التيمم، الصلاة، آيات، أنبياء، أولياء...).
كما تعددت لدى الشاعر أوجه التوظيف الإبداعي لنصوص القرآن الكريم، فنجد اقتباس لفظة أو جملة أو معنى لها دلالات إيحائية ونفسية وإيقاعية، وقد برز ذلك في قوله:
" هب لي من لدنك ذراعين
ما تطير به الملائكة
ذاكرتي الطيبة منك
إني أبشرك بصلاة
على مرمر محرابك
أعلى النهر وأسفل النحر
لتكون قصيدتي بلا اسم
لن يكون لي منها سميا"(ص17)
فالفعل (هب لي ) يفضي إلى دلالة إيجابية، تحمل معاني التحرر واستمرار الحياة رغم حالة الحزن و القلق الذي يعيشه الوطن، وتبشّر بولادة نص جديد أو قصيدة جديدة، كما بشر سيدنا زكريا، كما في قوله تعالي:" هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ ۖ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ۖ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ"(الآية 38 من سورة آل عمران).
و كذلك حين يقول:
" أبشرك بما جاءت به لحظة قيامي للعشق
وأنا أنتبذ مكانا تشرق فيه الروح
بعد أن مسني الشيب
و لم أكن شيخا
..............
وكان لكِ من لدنّي وليًّا"(ص18)
وهو تناص مع قوله تعالى:" يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَىٰ لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا " (الآية 7 من سورة مريم) مما يعني أن توظيف المعنى القرآني جاء متسقاً مع تجربة الشاعر، وأحزانه المتراكمة. ويستوحي الشاعر من القصص القرآني ما يساعده في بناء أفكاره، وبخاصة عند تصوير حالة الاغتراب المكاني، والضياع الوجداني.
كما نلاحظ التناص من خلال توظيف كلمات من السور القرآنية:( القمر المسجور- سم الخياط- من لدني وليا- سلام عليك- تيمم وجهها- انتبذ مكانا- قد القميص- العصف المأكول...).
ومن خلال هذا التناص اللفظي يمكن القول أن الشاعر علي لفتة سعيد لديه استيعاب ناجح لنصوص القرآن الكريم، بالتوافق معها في الألفاظ والتراكيب، فضلاً عن استلهام القصة القرآنية، واستغلاله للإيحاءات المفردة القرآنية، وما تحمله من دلالات، والذي يشكل خصوصية التجربة المعاصرة، وغناها بالأحداث.
كما نجح في قلب وتحوير النص الأصلي للابتعاد عن النص المأخوذ للتعبير عن معنى خاص به مغيرا العبارة ويلقي بظلالها على نفسية المتلقي:
" و تيمم وجهها المدن الصارخة بالتراب
لا وقت لانتظار الوضوء
أينما تولوا وجوهكم صوب الربيع
فكل الأرض قبلة للعاشقين
و النداء المحتشد بأزرق العروق
تغسل ظاهر أكفها الربيع
لا تقل ..ما لا يقال عن التاريخ
ولا تبزه بشتائم من برد وحر وأوراق ساقطة
من شجرة الوطن.. لم تأكلها الحروب"(ص12).
من جهة أخرى فإن الشاعر رغم ما يحمله شعره من رمزية ترتدي عباءة التخفي، فإنه اهتم بالصورة الشعرية وجعلها إحدى الخصائص الجمالية لقصائده، فهو الذي يترك الملائكة وهي تحيك لون الفراشات على الوسادة، لأن الشياطين تنام دائما في هندس القصيد ليكون الشعر، ليبصر عذب القصائد ويسرق قبلة ينزفها حبرا على بياض القصيدة القابلة لنخب اللحظة، فالقصيدة عنده كما يقول:
"هو مشهد بين الأحياء في العالم الآخر
لملمت روحي وعبأت الحروف
وأغمضت عين القصيدة على السطور"(ص 32).
بمثل هذه الصور الشعرية يكشف عن قدراته في تطويع اللغة وبالتالي عن إمكانياته الإيحائية التي تجعل من الدلالات متاحة للقارئ من خلال توظيف التناص القرآني، وهو ما يعبر بشكل ما عن جانب من تمكن الشاعر وقدرته على التعاطي مع اللغة من أجل توظيفها لنقل مواقفه من المرأة وعلاقته بالوطن ونظرته للحياة كل ذلك وفق أفكار جميلة تختفي في الضوء و ترتوي من عبق الحلم لتنير القصيدة.
وفي الختام يمكن القول أن الخصائص الفنية لمجموعة "أختفي في الضوء" تتجلّى في وحدة الموضوع وتنويعاته الخصبة والغنية وتكامل بنائه العضوي والفنّي كما يظهر أيضا في بعض القصائد المركبة التي تعكس الحالة الواقعية التي يعيشها الشاعر.
لذلك لم نتعامل مع أنا الشاعر في هذه المجموعة كونها أنا مفردة مفرغة من كل معانيها ودلالاتها، وأنها تمثل الحزن والألم المسيطر على فؤاد الشاعر، فالأنا لم تكن فردية ذاتية بقدر ما هي انعكاس لما يمر به الوطن على نفسية الشاعر، فهو يعكس لنا حالة واقعية يجسدها تارة، ويخفيها تارة أخرى في طيات النص لذلك جاء فعل التخفي، فعناصر الطبيعة بما فيها من هواء و ماء وضوء.. وما أنتجه الهدير في العروق لا يجعل القصيدة جامحة بما فيه الكفاية. لذلك فهو يحاول أن يجعل القارئ يسهر جراها ويختصم، وقد نجح في جعل التأول يحترق من أصابع القصيدة، وقد اختلف القصد عن المعنى، وما تحليلي وتأويلي لمرامي الشاعر إلا النزر اليسير الذي أربكني، وقد ارتعش قلمي ليسقط منه الكثير مما لم أنتبه لتبيينه.