مسافر بلا حقيبة..
كنت أتجوّل في بلاد بعيدة عريقة بثقافتها غريبة بسلوك شعبها، أتسكّع في أزقتها الضيّقة.. ألقي نظارات في الأرجاء هنا وهناك، ليقع بصري على خمارة عتيقة الطراز ذي واجهة من الخشب إسمها مكتوب على لوحة رخامية على يمين المدخل.. الفضول والرغبة دفعاني لإستكشافها.. بسملت(قلت بإسم الله) ودخلت برجلي اليمنى. نقلت بصري في الأنحاء، أخترت طاولة مستركنة وجلست. لا أوحي للناظر أني سائح لكن مظهري يختلف..الخمارة تعجّ بالرجال، منهم من يقهقه بأعلى صوته ومنهم من دموعه حابسة في مقلتيه تنتظر لحظة الإنفجار ومنهم من ينظر إلى السقف سارحا بأفكاره كأنه يكلم الآلهة ...ومنهم من يرمقك بنظرات مجهشة بالصمت لا تعرف كنهها..
روائح دخان السجائر والماريخوانا اختلطت مع رائحة عصير الشعير والويسكي وصوت الموسيقى الصاخبة تداخل مع أصوات الزبائن السكارى.. بعضهم يلعب القمار.. تعلو أصواتهم.. هناك رابح وخاسر.. هنا تجري المراهنات بالمال وهنا مقرّهم حيث الحرية المطلقة.
امرأة شقراء كانت تتجول على ضفاف الطاولات، لا أحد ينظر إليها رغم جمال عينيها الخضراوين وخصرها المنحوت، اقتربت مني، ثم زادت في الاقتراب.. سلّمت وجلست دون إذن..
قالت : أتظنني عاهرة؟
لم أجب..
ـ أتظنني مجنونة؟
لم أجب..
تبدو غريبا عن هذا المكان، كلنا غرباء .. أشتغل هنا منذ سنوات، رمانا الزمن في هذا الرّكن لنبتعد قليلا عن الواقع الكفكاوي وننساه ولو للحظات.
أخذنى الطمع في المزيد من الاطلاع على معرفة خبايا وخفايا المدينة وسكانها..طلبت من النادل أن يحضر لها كأسا من الويسكي لكنها رفضت..
ـ ألا تشربين؟
ـ لا أشرب في هذا المكان .. لا أريد التبوّل على جدار المخمرة كما يفعل هؤلاء، لنترك الكأس لمناسبة أخرى...
ـ هل أنت جائعة ؟
ـ لا .. أنا أريد فقط التحدث.. أغلب الظن أنك مسلم.. أنا أعلم أنك ترغب في معاشرتي وتنتظر الفرصة لتتمكن مني..
ـ كيف عرفت ذلك؟
ـ عرفت من نظرتك لي.. نظرتك شاملة ناطقة.. اشرب واستمع ولا تقاطعني..أتعلم من هؤلاء الرجال؟ هؤلاء خلقوا ليخدموا أسيادهم، أذكياء في تخطيط نجاح الغير، صنّاع الفتنة، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يقولون، جهدهم وشغلهم في ألسنتهم، أموالهم ليست لهم.. تراهم هنا يبكون ويضحكون فقط لينسوا أفعالهم الإجرامية.
ثم وضعت ساقا على ساقٍ وكشفت عنهما. في اللحظة نطق أحدهم بأبيات شعرية يمدح فيها الخمرة والآخر غنى أغنية لداليدا ومنهم من قرأ سورة من الانجيل ومنهم من وقف يرقص...
ـ إن شئت تكلم الآن...
ـ سأتكلم حين تأتي المناسبة مع كأس الويسكي الموعود.. في رحلة زادها الخيال وتحليق عبر الممكن والمستحيل.
ونحن نتمشّي في أزقة المدينة متّجهين إلى نزل فيكتوريا الذي تقابله حديقة صغيرة بها تمثال برونزي فيما يشبه النافورة لرجل يتبول بسعادة أمام جميع المارّة وضعت يدها على زندي وقالت: عضلات؟
قلت في نفسي لا أدري لماذا جئت إلى هنا.. كانت محض مصادفة ومن الطبيعي أن يدفعني فضولي إلى التطلّع .. هنا كل شيء على حقيقته.. هذا ما أسميه مشهدا حقيقيا.
نورالدين اسماعيل